زمن التمياك

إنه زمن التمياك, اللي ميّك عليك ميّك عليه.

إنها مقولة بسيطة قرأتها في كتاب “مدينة التراب” للروائيّ المغربيّ إدريس الخوري, ورغم بساطتها الشديدة فإن كثير من الناس يعجزون عن فهمها, أو يفهمونها لكن لا يعرفون كيف يطبقونها في الواقع. ولهذا في هذه التدوينة سأحاول مساعدة الناس في تعلّم “التمياك”, بداية بإقصاء الجزء الاول من المعضلة وهو الفهم…

التمياك: من فعل مَيَّكَ, يُمَيِّكُ. و يقصد بها ترك الشخص لحاله و عدم إزعاجه, مقابلها في اللغة الإنجليزية هو “Let alone” كما في “Leave me alone”. مثال: إذا لم تُميِّك عليَّ ستجد حذائي مغروساً في مؤخرتك.

كما ترون, فهو بالفعل أمر بسيط كما قلت لكم. الآن, قولو لي ما الصعب في أن يترك المرء شخصاً ما وشأنه؟ الظاهر أن الأمر صعب, وإلا لما كان الكثير من الناس يواجهون صعوبة في تطبيقه, الأمر الذي يأتي بنا إلى الجزء الثاني من المعضلة.

هذا الجزء بسيط, ربما أبسط من الجزء الأول لأنه بحلول هذا الوقت لا شيء جديد لتتعلمه. كيف تُميّك عن شخص ما؟ بسيطة, إذا لم يكلمك, لا تكلمه. طبعاً لا يمكنك أن تميّك عن كل الأشخاص, والدك على سبيل المثال, لأن هذا يدخل في باب العقوق, لكن من باب الاحتياط سنقول أن التمياك ينطبق على كل شخص لا تعرفه شخصياً.

إذا ها أنتم, درس أخر من دروس الفيلسوف/عالم الإجتماع/الكوميديان/المدوّن رضوان, ضمن دروس عديدة نذكر من بينها: كيف تعرف ما إذا كان شخص ما عنصرياً؟ و هل كونك مضحكاً يجلب لك النساء؟ و في حوار جديّ أكثر هل تغيرنا أم تغير رمضان؟, مع مزيد من الدروس مستقبلاً إن شاء الله.

الآن, ما الذي يدفعني إلى التحدث في موضوع تافه كهذا؟ لأنه على ما يبدو أصبحنا نعيش في مجتمع يحكم على المرء و ينتقده (علناً أو في نفسه) في كل شيء, كيف ذلك؟ سأعطيكم مثال تافه جداً…

هل سبق وحصل لك أنك كنت تتمشى في طريقك بشكل عاديّ قبل أن تدرك أنك ذاهب في الإتجاه الخطأ, لا تستطيع أن تغير الإتجاه وتذهب في سبيلك هكذا وحسب, لا! يجب أن توضح للناس حولك أنك لست مجنون, عادة تضرب على رأسك قبل أن تستدير, أو ترفع إصبعك بينما تستدير ثم تشير إلى وجهتك, أو قد يصل بك الأمر إلى أن تقول بصوت واضح “لقد كنت امشي في الطريق الخطأ” لتعلن للناس انك لست مجنوناً.

لماذا لا يمكننا أن نعيش في مجتمع لا يحكم فيه الناس عليك وعلى مستوى سلامتك عقلياً من خلال شيء تافه جداً كتغيير اتجاه طريقك؟

لنعط مثالاً أخر, عن غزة مثلاً..

إنتشرت مؤخراً موضة عبر الشبكات الإجتماعية من أشخاص يأتون على ذكر غزة في كل فرصة تسنح. ها أنت تقرأ خبر عن كرة القدم, التعليق الاول يقول “غزة تُقصف وأنتم تتابعون ميسي”, ها أنت تقرأ نكتة “غزة تقصف وأنتم تُنكتون”, خبر عن التنقيب عن البترول “غزة تقصف وأنتم تنقبون عن البترول”.

أنا متعاطف مع غزة, أدعو لهم بالنصر في صلاتي, لكن ليس هكذا تجذب الانتباه لقضية مهمة. تخيلو لو كان هناك مثيل لـ “الباقون المذنبون” من مسلسل The Leftovers في العالم الواقعيّ, لكن بدل طائفة من الأشخاص الصامتين هدفهم تذكير الناس بالاشخاص المختفين, لتكن طائفة من الأشخاص المزعجين هدفهم تذكير الناس بأن غزة تُقصف.

ها انت تتناول فطورك “غزة تقصف و الأطفال جياع وها أنت تتناول سندويتش كفتة وتشرب من قنينة كوكاكولا مكتوب عليها إسم غير إسمك”, ها أنت ذاهب إلى المدرسة “غزة تقصف والأطفال لن تعود لديهم مدارس بسبب هذا وها انت ذاهب إلى مدرستك بلابتوبك الجميل”, انت تتغوط “غزة تقصف وأنت بلا حياء تحاكي منظر سقوط القنابل على غزة بالتغوط في حمامك”. 😆

مُزعج, أليس كذلك؟

لكن عندما تقوم بالإشارة إلى أن الأمر مزعج, فإن الناس ينظرون إليك وكأنك كفرت بدين الله, “أيها السافل الوقح كيف تجرؤ!”. من المُلاحظ أن معظم الأشخاص الذين يقومون بهذه الحركات هم الأشخاص الأقل معرفة بالقضية الفلسطينية وكيف بدأت و المجازر التي ارتكبت على مر الزمان وراح ضحيتها الشعب الفلسطينيّ, قد يتذكر محمد الدرة و قد يعرف ياسر عرفات, لكن إسأله عن “صبرا و شاتيلا” مثلاً؟ في أقصى الحالات سيخبرك أنها أغنية لناس الغيوان. 😆

أنت متعاطف مع غزة و تتمنى زوال إسرائيل وتقوم بأقصى ما تستطيعه, الدعاء وربما التبرع للقضية الفلسطينية بمبلغ معين حسب قدرتك, لكن لا يجب عليك أن توقف حياتك كلياً فقط لأن بؤرة حرب ثارت فيها الحرب من جديد, “لماذا لم تإتِ إلى العمل اليوم يا رضوان؟” “لا أستطيع, غزة تُقصف”, “لماذا لم تجلب الخبز اليوم يا رضوان؟” “لكي نعيش تجربة شعب فلسطين الحالية”, “لماذا لا تقبلني يا رضوان؟” “الأمر ليس متعلق بغزة, وإنما رائحة فمك نتنة يا فتحية”. 😆

أظن أن مشكلتي الأكبر مع هذه الموضة هو أن الناس يظنون أن غزة تحتاج إلى تذكير, إن الأشخاص المتعاطفين مع غزة لم ينسوها قط. إذا كنت نسيت فلسطين و القضية الفلسطينية و الانتفاضة الفلسطينية فعلى الأرجح لا داعي لتذكيرك بها.

 

يمكنني أن أعطي أمثلة عديدة على هذا المنوال (الشخص الذي يصوم رمضان و يخالف الدين في باقي الأيام, المرأة التي تعاتب زوجها لأن الخروف الذي اشتراه للعيد صغير جداً بالمقارنة مع خروف جارتها… الخ), المقصد من هذا كله هو أننا ندع المجتمع يملي علينا كيف نتصرف, لذلك عندما يتصرف أحد ما عكس ما يتوقع منه المجتمع, نثور ضده رغم انه قد لا يكون بالضرورة مخطئ.

– دمتم بخير, و دُمتم مُمَيّكين…

3 تعليقات

  1. .
    مارس 20
    Reply

    بلا مقدمات, اعتقد انك يا رضوان شخص بموهبة حقيقية في مجال الكوميديا والمجال الروائي (لا اعرف المصطلحات الدقيقة ولكن على سبيل التوضيح مغامراتك الروتينية وقصص حميدة وما الى ذلك التي ترويها احيانا ) ,ولكن لاحظت انه يوجد بعض التكرار لاساليب لاشخاص غيرك (لا اعرف حقا بدقة اين مواضع التكرار لأنني كنت اقرأ من باب التسلية ثم انتقلت للنقد ان كانت هذه الملاحظات تسمى نقدا , ولكن اعتقد انني استطيع ان ابحث عنها في بعض المقالات ان شئت مزيدا من التوضيح ),بمعنى ادق ليس تكرارا تكرارا وانما لاحظت انها تتبع نمط سمعت به قبلا او قرأته فذهبت كوميديته او لم يصبح مضحكا بنفس القدر او المفعول , مع انني لم اشاهد الكثير من الكوميديات من الافلام والمسلسلات ولم اشاهد كوميديانيين كثر بل ربما لم اشاهد الا جورج كارلين وساينفيلد في مسلسله فقط , ولكن هناك اساليب او نكت تنتشر او تصبح مألوفه لا اعرف تحديدا كيف (واعتقد انه موضوع يحتاج بحثا ) , في الواقع انا لا اكرهها لكنها مكررة نوعا ما , على الرغم من انه توجد نكت او محتويات مميزة كثيرة في هذه اللامدونة , هذه الملاحظة الاولى وانا اعرف انني لست بالخبرة التي تخولني لكي ابدي ملاحظات ناقدة ان جاز التعبير ولكن بما انك تقدر اراء الناس ( التي دائما تكون ملاحظات بسيطة غبية او مجرد حروف مصفصفة لاتزيد شيئا ) اردت ان اسرد مايجول بخاطري قد يفيدك ولو على الاقل كتسلية قرائية لمدون عاطل , عفوا لامدون عاطل , اما الملاحظة الثانية هي محاولتك احيانا لتوضيح نكاتك او مواضع التبسم المقترحة , هذا في الواقع افسد بعض النكات جماليا على الاقل لانه شوه شكل النص, طبعا اعرف انه هناك من يحتاج لان تشرح له النكته ولكن لايعني هذا ان تهتم به (وطبعا مع علمي بأن الناس متوسطوا الذكاء غالبا وبليدون كوميديا غالبا) لان هذا يفسد المحتوى الناتج من الموهبه , لايجب ان تكون الكوميديا لكل الناس ولكن يجب ان تحافظ على مستوى المحتوى في اعتقادي , وان كان هناك سبيل لنشر المحتوى لكل الناس مع الاحتفاظ بمستواه فلا مانع من انزال المستوى لهؤلاء المساكين لكي ننهض كمجتمع واحد متساوي ( ولو اعتقاديا على الاقل ) , قد تبدو نظرة متعالية ولكنها الحقيقة , ماذا كان سيحدث بنظرية النسبية ان بسطها اينشتاين بنفسه للناس ؟ ستصبح شيئا يستسهله الناس , ايضا الروايات , كل من تعلم الكتابة وسمع بانه هناك من ربح من هذا المجال تناول الة كتابة او قلما وراح يتغوط على الورق ثم ذهب راح يوقع على مانتجه فكره الموجود بمؤخرته, وايضا الغناء والموسيقى يكفيك مراهقين الامريكان والاربعين فرقة في كل زاوية , اعتقد ان لديك مايكفي من الموهبة لكي لاتشرح نكاتك او مهما كان المسمى الادق لما يضحك عليه الناس هنا في اللامدونه , ايضا لا اعرف لماذا انت مغمور هكذا وكل من لديه مؤخرة وهاتف يوجد عليه تويتر ذهب يتغوط في كل مكان حتى في الكتب والمقابلات التلفزيه , (في الواقع اعرف لماذا هم مشهورون ولكن لتوضيح فرق المستويات ) ,اود لو ارى هذه الصفحة منشوره على نطاق واسع

    • مارس 20
      Reply

      أنت محق كلياً, في الحقيقة هذه النقاط التي ذكرتها ليست خاطئة البتة بل هي في الصميم, وأنا شخصياً قطعت وعداً على نفسي في بداية هذه السنة على تغييرها وتغيير عدة أشياء أخرى, لقد تعبت حقاً من شرح النكات والإشارة دائماً إلى أن ما كتبته للتوّ هو نكتة, الحل هو أن يكتب المرء ما يريد أن يكتبه وإذا فهمه القارئ طوبى له وإذا لم يفهمه فتلك مشكلته هو. شكراً لك على تعليقك, أقدر ذلك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

6 + 3 =