الأتوبيس

صباح الخير ايها الصباحيون, و طابت ليلتكم أيها الليليون, و نوماً هنيئاً للذين لا يزالون ينامون. صباح معطر بدخان العوادم و اكوام النفايات. الريح تهب بقوة, مبعثرة افكاري. إنها السادسة صباحاً بتوقيت كينيفورنيا, و محدثكم رضوان لا يزال لم يتناول قهوته الصباحية بعد.

أستقل الباص كوسيلة نقل يومية, لكي أصل إلى محطة القطار. وعلى متن هذه الرحلة البسيطة بين محطة الباص و محطة القطار, تحدث اشياء. أشياء جعلتني أفكر بعمق, تذكرني بمقولة لا أعرف من هو صاحبها:

“لا ينهض بأمة شعب لا يزال يركب الباص من الباب الامامي”

ولمن لم يفهم, فالباص لديه باب امامي و باب خلفي (بدون هراء, يا شيرلوك؟ 🙂 ) الباب الخلفي للصعود, و الباب الأمامي للنزول. إذا كان هذا الشعب عاجزاً عن تنظيم نفسه, بأن يصعد من الباب المخصص للصعود و ينزل من الباب المخصص للنزول, فكيف تتوقع منه ان ينظم نفسه في أي مجال من مجالات الحياة الاخرى؟ بدون ان أتحدث عن التدافع الذي يحدث على اماكن الباص وكأنها أماكن في الجنة..!!

 

دخلت مؤخراً شركة جديدة للنقل العمومي في مدينتنا, بتعريفة مخفضة عن الشركة الموجودة سلفاً. وفي احد الأيام, كنت عائداً على متن الباص, الذي كان مكتضاً. عندما توقف السائق لينزل الركاب, حاول احدهم الصعود (من الباب الأمامي, طبعاً!) فطلب منه السائق ان يستقل الباص الاخر (من الشركة الاخرى) بدل ان يستقل هذا, المملوء عن أخره, فصعد رغم ذلك متجاهلاً السائق, و قال: “لا, هذا مجانيّ” في إشارة منه إلى انه لن يدفع.

وليست هذه حالة استثنائية, بل إن معظم شباب هذه المدينة (وحتى كبار السن احياناً!) يرفضون ان يدفعو ثمن التذكرة. يرفضون ان يدفعو ثمن التنقل على متن عربة رباعية تجول بهم و توصلهم حيث يريدون. شعب لا يريد ان يدفع ثمن الباص, كيف يمكنه ان ينهض بهذه الامة؟

عندما كنت طفلاً, كنت (سامحني الله) ارفض انا الاخر ان ادفع ثمن الباص لأن زملائي كانو ينعتون كل من يدفع ثمن الباص بأنه جبان و يخشى ان يقبض عليه (بدون ذكر السبب الرئيسي وهو كوني طفلاً, لا دخل ماديَّ لي), فكنت ارفض ان ادفع, خوفاً من ان انعت بالجبان عديم الخصيتين!

كانت هناك شركة اخرى للباص, كنا ندعوها “حكمات” لسبب اجهله, وكانت تمتاز بباصاتها المهترئة (يالها من ميزة!), التي تبدو وكأنها كانت تستعمل في الحرب في مالي, أو أسوء من هذا, كأنها كانت مستعملة من طرف تشلسي في احد مبارياتهم تحت امرة دي ماتيو! و كانت تمتاز أيضاً بانخفاض تسعيرتها, التي.. ان جاز لي القول.. تتناسب مع خدماتها المقدمة, و التي تمثلت في درهم واحد (التعريفة الحالية للباص: ثلاثة دراهم ونصف). الباص وهو بدرهم واحد, كان يرفض الناس ان يدفعو ثمن تذكرته.

حدثت لي حادثة غريبة على متن باص “حكمات”, لم تترك فيَّ أثراً عميقاً انذاك, بل فيما بعد!
حيث اني كنت انتظر الباص كعادتي لكي اذهب للمدرسة, وعندما وصل باص “حكمات”, الباص كان فارغاً إلا من شخصين في الخلف, صعدت بشكل عادي, جلست في الخلف فمد لي احدهما تذكرة مستعملة (خدعة إعادة استعمال التذكرة, حيث يمرر النازل من الباص تذكرته لشخص سيصعد على متن الباص, مثل سباق التتابع), وبالرغم انني كنت انوي ان ادفع, إلا انني خشيت مجدداً, أن انعت بالجبان, فقبلت التذكرة منه على مضض, بعدما حاولت أن ابين له انه لا بأس ويمكنني ان ادفع. لكن قبلت بالتذكرة في نهاية المطاف. سائق الحافلة و القابض كانا جالسين في الأمام يراقبان من بعيد, وعندما رأى السائق بأنني اخذت التذكرة المستعملة, أوقف الباص وقفز من مكانه و جاء راكضاً, وصرخ في وجهي بكلام لا اذكره, فهدأت من روعه قائلاً انني استطيع تسديد ثمن التذكرة, ولا داعي لأن تفجر وريداً في دماغك بكل هذا الصراخ.

بعد فترة قليلة من هذه الحادثة, اعلنت هذه الشركة افلاسها. مر علي الخبر مرور الكرام, إذ لا يزال هناك شركة اخرى ذات باصات مهترءة و تعريفة مرتفعة (منطقي أليس كذلك؟!). لم امعن التفكير فيما حدث إلا بعد بضعة سنوات, بأن ذلك السائق كان يصرخ في وجهي, لأنه على وشك ان يفقد وظيفته, كيف ستدفع له الشركة راتبه إذا كان الشعب لا يدفع؟ كيف سيعتاش؟ كيف سيطعم اولاده؟ ماذا لو انني مكانه؟ ماذا لو انني احرث طوال اليوم مقابل ان لا احصل على اي مردود بالمقابل؟ شعرت بالذنب, أنا, كطفل لا دخل له, شعرت بالذنب لأنني لم ادفع ثمن الباص, بينما الكبار يجاهرون بعدم اداءهم لثمن التذكرة بكل تفاخر, وكأنه انجاز. طوبى لك, ايها السافل!

في أحد الايام, بعد بضعة سوات من هذه الحادثة, كنت أهم بصعود الباص, فإذا بامرأة نزلت من الباب الأمامي تهرع إليّ, وانا صاعد من الباب الخلفي, فتوقفت لأنظر في امرها, ما الذي تريده؟ أتت إلي, و بدون ان تنبس ببنت شفة, أعطتني تذكرتها المستعملة. هكذا, بدون ان اطلبها حتى!

شعب عجيب!

وقبل ان أذهب: عندما تستقل نفس الباص يومياً على نفس الخط يومياً في نفس التوقيت يومياً, فمن المرجح جداً ان تلتقي بنفس المتسولين يومياً. لدرجة انك تصبح مثل صديقهم: “كي راك خويا رضوان؟ بيخير؟” قد يسألني أحدهم ذات يوم, ولربما يوماً عندما تنقصني فكة لكي ادفع ثمن التذكرة, قد يعطيني احدهم!

3 تعليقات

  1. عندما أرى مثل هذه الاشياء أعرف ان الله رحيم بالنساء عندما اختار لهن أن يولدن نساء

    عجيبون … نحن لا نشبه احدا غير أنفسنا

    عجيبون و الله يهيدنا

    أجمل ما في النص هو وقفتك مع الذات، ليت إخوتي يتعضون

    كنت هنا

  2. يناير 26
    Reply

    اول رد وليس اول مقال اقرأه هنا
    مقالاتك جميلة وفيها كم كافي من الابداع , نسيت نفسي وانا اقرأ
    احب سخريتك الجميلة والتي تميز كتاباتك
    واصل ابداعك !!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

+ 56 = 66