بعد سنة كاملة في جحيم سطات, البرد القاتل و القيظ الخانق, عدت أخيراً إلى القنيطرة محتفظاً — بطريقة ما — بكامل قواي العقلية. لقد تخرجت, انتهى العذاب… أم أنه بدأ للتوّ؟
لقد كنت منهكاً, وحرّ الصيف جعلني لا أفكر سوى في زيارة إلى شاطئ المهدية على وجه السرعة, لكن لا يحلو الشاطئ سوى برفقة الأصدقاء, أردت أن أمسك الهاتف و أتصل ببعض من أصدقائي, لكن المشكلة هو أنه ليس لدي رصيد, كما أن لائحة الأرقام بهاتفي لا تتجاوز العشرين نفراً, نصفهم من العائلة و النصف الأخر أرقام أشخاص على الواتساب. إذا هي فرصة لزيارة الأصدقاء في منازلهم و رؤية وجوههم القبيحة, لكن هذا أمر نتركه للغد, الليلة نأكل الفشار و نلعب الفيفا.
بالمناسبة, أليس من الغريب انه كلما كبرنا بالعمر كلما قلّت رحلاتنا نحو الشاطئ؟ أتذكر أنني عندما كنت صغيراً كنت أذهب للشاطئ مرة كل أسبوع على الأقل, ماذا حصل؟! بئساً!
جاء الغد, بعد تناول الفطور لبست قميص مانشستر يونايتد و شورتاً (في الواقع سروال, لكنه أصبح صغيراً جداً عليّ, و أصبح بفعل هذا شورتاً), ثم بدأت رحلتي عبر الدروب إلى عتبات أبواب اصدقائي. ومن باب الاختصار, سنقول أنني تفاجئت بأن معظم أصدقائي هؤلاء يا إما مشغولون أو يكرهونني, أو يا إما أن جميعهم يكرهونني ويكذبون بشأن إنشغالهم, أنا شخص طيوب و مسالم, طبعاً أقوم بتعليقات لئيمة حول عيوبهم الجسدية و الذهنية و حول حياتهم البئيسة المملة, لكنني احبهم! من يحتاج إلى الأصدقاء؟ غداً سأذهب بنفسي, الليلة نأكل الفشار ونشاهد ترو ديتيكتيف.
إستيقظت صباحاً على رنين الهاتف, وياللمصادفة, إنه عبّاس يسألني في رسالة نصية — باللغة العرنسية, الأمر الذي أكسبه اللقب “عرناس بن فرناس” لديّ, والذي لا يعلم بعد انني اناديه به — ما إذا كنت أود أن أذهب للشاطئ معه مساء الغد. في بادئ الأمر بدى الأمر غريباً, عبّاس بدى منزعجاً من كثر ما علقت على أي تعليق غبي يصدر منه بقول “لهذا السبب لم تتخرج من المدرسة الثانوية أبداً!” و لم أسمع منه منذ اكثر من سنة, وكل ما أعرفه عنه حالياً هو أنه متزوج ولديه إبنة ولم يعد يتسكع معنا منذ يوم زفافه. ثم إنني شخصياً كنت أفضل عدم التسكع مع اشخاص مثله, المتزوجون و الناضجون, الذين كل حياتهم عمل و عائلة و أولاد و زوجات و مقابلات عمل و هاتفهم يرن في اليوم أكثر من هاتفي في شهر, لقد كان ذلك العالم يرعبني, لست مستعداً بعد لدخوله, أريد أصدقاءاً يلعبون فيفا و يشاهدون ترو ديتيكتيف و يستمعون لأديل, وقد أرضى حتى بأصدقاء يلعبون PES ويشاهدون فامباير دايريز و يستمعون للشاب بلال.. لكن إلا الناضجون المتزوجون.
لكن ما المانع؟ إنها رحلة إلى الشاطئ, في سيارة عائلية بدل الباص المزدحم, ثم إنني لا أستطيع الذهاب لوحدي, ستسرق حاجياتي فور ذهابي للسباحة, مُجبر أخاك لا بطل أجبته بالإيجاب, فرد على الفور قائلاً “ممتاز, اليوم الساعة الثالثة بعد الزوال”.
تناولت غذائي و ارتديت ملابس السباحة و نفخت الكرة, لقد كنت جاهزاً, و لقد جاء عبيبيس على الموعد بالظبط. سلّمت عليه و تبادلنا بعض الحديث الخفيف قبل ان اطلب من عبيبيس فتح باب صندوق سيارته, وياللهول, لم أصدق ما رأته عيناي..
لقد كان الصندوق مملوءاً بهراء بلاستيكيّ ناصع الألوان, ألعاب أطفال بلون القيء, تلك الأشياء الصغيرة التي يعض عليها الأطفال بأسنانهم عندما تبدأ بالنموّ و التي تبدو وكأنها تعرضت للعض من طرف سمك البيرانا, كتب تلوين ممزقة أوراقها, بدون أنسى تلك الدمى التي تغني, و التي دائماً ما تغني أغانيها بسرعة مثيرة للرعب عندما تقترب بطارياتها من النفاذ و التي تقوم بتشغيل نفسها ليلاً بدون سبب بصوت عالٍ بما فيه الكفاية ليجعلك تتغوط في سروالك رغم انك كنت متجهاً للحمام لتتبول وحسب.
لقد كان شيئاً أشبه بفيلم رعب, وما زاد الطين بلة وجود عربة الأطفال و حقيبة الاطفال — إن صحت التسمية — ذلك الشيء الأشبه بحقيبة ظهر معكوسة تضع فيها طفلك و تحمله بكتفيك على صدرك لتحمل طفلك على وضع Hands-free, لقد كان الصندوق مملوءاً عن أخره بهذه الأشياء, ولا يوجد مكان لأضع فيه حاجياتي البسيطة المكونة من كرة قدم و منشفة طويلة, بل إن هذا المغفل لم يجلب حتى مظلة شمسية, وعندما سالت عن الأمر أجابني قائلاً بأنه لا حاجة لذلك.
ماذا؟ لا حاجة لمظلة شمسية؟ وما الذي سيقينا من الشمس؟ ماذا؟ كريم مضاد للشمس و قبعة “دلع”؟
تذكر, لا أحد غيره يريد أن يذهب معك للشاطئ, يجب أن تكون طيباً معه, لا تتفوه بذلك التعليق الساخر الذي تفكر فيه الآن, إصعد للسيارة و ضع الكرة بين قدميك و المنشفة بجانبك و التزم الصمت.
وهذا ما فعلته, لأفاجئ بوجود طفلة صغيرة في الكرسيّ الخلفي للسيارة نائمة على ذلك الشيء الذي يوضع فيه الأطفال في السيارة لكي لا يقعو على رؤوسهم. ستكون هذه رحلة ممتعة بدون شك.
انا ذاهب للشاطئ مع مغفل لم يتخرج قط من المدرسة الثانوية و لديه بالفعل عمل بدخل قار و شقته الخاصة و سيارة عائلية, وينتمي إلى تلك الفئة من الأباء الذين يرتدون “حقيبة أطفال” ظناً منهم أنه هذا يجعلهم يبدون رائعين و جد متروسكشوال.
وعندما ظننت أن مفاجئات هذا اليوم وصلت إلى حدها, فوجئت بأننا لم نكن متوجهين نحو شاطئ المهدية الغالي, بل إلى شاطئ الأمم, الذي يقع خارج المدينة ببعض الكيلومترات. شاطئ المهدية شاطئ شعبيّ, يرتاده “ولاد الشعب” من الطبقة الكادحة, على عكس شاطئ الأمم, الذي بفضل عدم وجود باص يؤدي إليه لا يرتاده سوى المترفون و السياح الأجانب.
لا اعلم لماذا جعلت الأمر يبدو وكأنه شيء سيء, على العكس, إنه شاطئ جميل, يرتاده اناس انيقون و جميلون, بما في ذلك الفاتنات القوقازيات و ممارسوا الركمجة الوسماء الذين — على الأرجح — يغرّدون بينما يركبون الأمواج, ويستطيعون استدعاء الدلافين بإطلاق الريح, أو شيء من هذا القبيل.
وصلنا و اخرجنا متاعنا و اخترنا منطقة مناسبة للجلوس, أنا افترشت منشفتي الطويلة بينما ذلك السافل جلس على كرسيّه المريح, وليس هذا وحسب, بل إن أول شيء فعله بعد الجلوس هو دهن الكريم المضاد للشمس. إلهي, هل هذا عذابي لسخريتي من كل اولئك الناس على الانترنت؟
المعدل العمريّ في هذا الشاطئ شاب للغاية, بمعنى انه يوجد الكثير من الشبان مفتولي العضلات و الفتيات النحيفات في البكيني, وها أنا, الطويل النحيف, جالس بجانب سافل سمين مزغّب, نُري لأولئك الشبان مستقبلهم المرعب, المليء بالشحم و الزغب. إحدى تلك الفتيات النحيفات الآنفي الذكر مرت من أمامنا وهي تقهقه مع صديقها المفتول العضلات, الذي رمقني بنظرة ملؤها الشفقة, جعلني أشعر وكأنني خنزير في دعاية لسانسيلك.
“ما عليكم سوى الانتظار!” أردت أن أصرخ. “ما عليكم سوى الإنتظار أيها الملاعين! سنوات قليلة و سيصبح لديكم عالات صغار و رهن عقاريّ و سينمو لكم الشعر من أنوفكم و أذانكم و من كل فتحة لعينة في جسدكم! سنوات قليلة ايها الملاعين! مواهاهاهاهاهاها!”
ترى أغرب الأشياء في الشاطئ, أشخاص يحفرون بدون سبب معين, زنوج يتسمرون, مباراة تنس رديئة تلعب بتلك المضارب الخشبية ذات الأصوات المزعجة, رجل يملأ الشعر كل إنش من جسده وكأنه يرتدي زيّ غوريلا.
لم تمض اكثر من 5 دقائق حتى داهمني الملل, يجب أن افعل شيئاً غير الجلوس بجانب هذا الأبله, نهضت وسألته ما إذا كان يريد السباحة, أجاب بالنفيّ قائلاً أنه لم يجلب معه ملابس السباحة! وما الذي أتى بك إلى الشاطئ بحق الجحيم؟ طيب, ماذا عن الكرة؟ هل تريد لعب الكرة؟ لا, ليس لديك النَفَسُ للعب الكرة؟ بئساً لك, سأذهب لغطسة سريعة..
عندما عدت, كان لا يزالان جالساً في مكانه بلا حراك, الآن يرتدي نظارة شمسية, انتابتني ضحكة قوية عندما رأيته, لكنني كتمتها, لكنه لمحني وأنا أحدق إليه, فبادرني بالسؤال مبتسماً: “ماذا هناك؟”, أجبته مرتبكاً: “لاشيء… اممم… كنت أفكر في الهرولة قليلاً على الشاطئ, هل تريد مرافقتي؟”
نظر إليّ عبيبس و فكر للحظة, ثم نهض و قال, سأرافقك لأنني أريد شراء قنينة ماء. طلب مني مساعدته في ارتداء حقيبة الطفل ثم وضع ابنته أمامه, عاري الصدر, طلبنا من الشبان الجالسين قربنا مراقبة اغراضنا من السرقة ثم انطلقنا, بدل الهرولة, مشينا و تحدثنا, تكلم كثيراً عن حياته الزوجية وعن المشاكل في البيت و في العمل… الخ, فأدركت انه أتى إلى هنا بقصد الابتعاد عن كل ذلك, أنصتت إليه ولم اتفوه بكلمة.
عندما وصلنا للمحل, طلب مني الإمساك بإبنته بينما يصارع الشبان المفتولي العضلات المتكدسين أمام المحل لشراء قنينة ماء. إمساك الأطفال, ياله من عبئ كبير, أخشى دوماً أن اسقط الطفل و أتسبب بقتله, لكن الحمد لله طفلة عرناس بن فرناس لم تصب بمكروه, بل إنني طلبت منه أن أستمر بالإمساك بها في طريق العودة.
حدث شيء غريب في طريق العودة, لقد جذبنا الكثير من الاهتمام, بعض الناس كانو مصدومين, والبعض الأخر يشير بإصبعه نحونا, أشخاص استرقوا النظر إلينا من فوق جرائدهم, وفتيات شابات نظرن إلينا مصدومات يغطين افواههن بأيديهن من هول الصدمة, زنجي توقف عن حفر الحفرة التي كان يحفرها ليحدق إلي شذراً.
لم أفهم الأمر, انا معتاد على نظرات الناس كوني طويلاً غريب الأطوار, لكن النظرات هذه المرة كانت مختلفة. عند عودتنا, بدى على عبيبيس الانزعاج, لأنه فور ما وصلنا بدأ أحد الشبان الجالسين قربنا بالضحك على الفور مشيراً بإصبعه إلى ظهر عباس, وفور ما التفتت لأرى بنفسي حتى سقطت على الأرض ضاحكاً.
إن حقيبة الطفل تلك تركت أثراً على ظهره الذي إحمرَّ من كثر تعرضه للشمس, و الأثر الذي تركته أشبه بصدرية نسائية, إذ أن الحقيبة تمر فوق كتفك و من تحت ذراعيك و تقفل وراء ظهرك. لقد ظن الشاطئ كله أن عبيبيس مخنث لعين يهوى ارتداء صدريات النساء.
فور ما تمالكت نفسي من الضحك الشديد و فسرت الأمر لعبّاس المسكين, أصابه الهلع الشديد, لم أكن أظن انه من النوع الذي يهتم برأي الناس فيه, لقد كان يصرخ و يقول لنا: “أتيني بحقيبة الطفل اللعينة! أين هي؟ يجب أن أرتديها و أمشي تلك المسافة اللعينة كلها مجدداً كي يعرف الناس انني لست مخنثاً لعيناً! يجب ان يعرفو انني لا ارتدي صدريات النساء! يجب أن أُفهِم أولئك الملاعين أنني رجل ذكوريّ للغاية!”
وقبل ان نتمكن من قول أي كلمة لتهدئة روعه, أمسك عبّاس بالحقيبة و اخذ ابنته و ظل يطوف الشاطئ ذهاباً وجيئة, الأمر الذي زاد من سوء وضعه, إذ في بادئ الامر لم تكن تلك الخطوط ظاهرة سوى لبياض بشرته و احمرار ظهره من جراء تعرضه للشمس, لكن ظهره الآن تسمّر و أصبحت تلك العلامات بارزة أكثر فأكثر, المسكين سيتعقد من هذه الحادثة لبقية حياته.
و منذ ذلك اليوم, لم يعد عبّاس مجرد عرناس بن فرناس, بل أصبح رسمياً: عتيقة. 🙂
أهنيك على التدوينة اللطيفة يا سلوم الشفارة