نادي العذاب

فتح بوعزة الماريواني عينيه يوم السبت المشؤوم ذاك بعد أن تسللت من بين ستائر غرفته أشعة الشمس التي استقرت بلا رحمة على جفني عينيه لدرجة أن النوم أصبح مستحيلاً. الساعة كانت تشير إلى العاشرة صباحاً، رن هاتفه الصينيّ الجيّد (الهواتف الصينية الرديئة أصبحت كليشيهاً من الماضي) وظهر على الشاشة في خانة المُتصل ‘عبيق الليل’، إنه صديقه عبدالقادر الذي لُقب بـ’عبيقة’ اختصاراً لإسمه منذ طفولته، أما ‘الليل’ فكانت إشارة للون بشرته السوداء التي تميزه عن عبدالقادر الأخر الذي بشرته ليست-سوداء. تردد بوعزة في الإجابة، لم يرَ عبيقة منذ عدة شهور عندما حصل على وظيفة الأحلام (التي يصادف أيضاً أنها وظيفة أحلام بوعزة كذلك) وانتقل إلى العاصمة، لكنه من جهة أخرى لم يرَ أياً من أصدقاءه منذ فترة طويلة إذ أصبحوا جميعاً مشغولين بوظائفهم أو دراستهم بينما يجلس بوعزة في بيته بلا عمل أو دراسة، ليس كسلاً منه أو تقصيراً، لكنه وصل أخيراً إلى قناعة أن بعض الأشياء لا يمكنه السيطرة عليها مهما حاول، من بينها مصيره وقدره. تنهد بوعزة وأجاب على الهاتف على مضض، مُفتعلاً سعادة في صوته رغم أنه كان بعيداً كل البعد عن السعادة.

– *مُقلداً النكتة الدائرة بينهم من دعاية مشهورة* عبيقاااااااااااااع
– بوعزاااااااااااااااااع
– كيف الحال يا ولدي؟
– بخير، بخير. وأنتم؟
– الحمد لله، لا ينقصنا سوى النظر في وجهكم العزيز
– مضحك أن تقول ذلك، لقد عدت للمدينة وأنا قرب منزلك وأردت لقاءك، هل أنت بالبيت؟

وزن بوعزة ملياً خياراته، يوم أخر من التسكع على الانترنت وعدم الخروج إلى أي مكان، أم لقاء صديق قديم ذو حياة ناجحة أكثر منه، وقرر أنه لا ضير في رؤية عبيقة من جديد وأن السماع حول حياته الجديدة الناجحة ثمن معقول مقابل هذا التغيير المفاجئ على روتينه اليوميّ الممل. لكن إذا كان سيفعل هذا، فلابد أن يستفيد من هذه الفرصة ليحصل على مشروب مجانيّ على الأقل مُدركاً أن عبيقة حتماً لن يطلب منه أن يدفع، وسيقوم بحركته المعتادة فول وصول الفاتورة إذ يمد يده إليها فبل أن يلمسها أحد غيره، لكنه خشي أن يحدث له ما حدث في تلك المرة السابقة عندما تظاهر أحد أصدقائهما بمد يده إلى الفاتورة منتظراً أن يسبقه بوعزة إليها، لكن بوعزة كان ينظر إلى التلفاز ووجد صاحبنا نفسه في مأزق. هذه الحركة، إنها مثل الروليت الروسية.

“نعم، أنا بالبيت” رد بوعزة، قبل أن يضيف “سألتقيك في رأس الدرب، وجدتني متجهاً لتويّ نحو المقهى. لا تزال لديك تلك السيارة أليس كذلك؟”. كان عبيقة يقود سيارة فيات أونو، أو ما يسميه بوعزة بسيارة الأقزام نظراً لأنها بالكاد كانت تتسع لقدميه، “نعم لا أزال أملكها، ذات السيارة. كنت أمل أن ألقي التحية على والديك؟” أردف عبيقة، في صوته قليل من خيبة الأمل، “والدي؟ لا عليك منهما، سأخبرهما بأنك تلقي التحية” رد بوعزة، مضيفاً “كُن في رأس الدرب خلال خمسة دقائق، أنا قادم”.

تأنق بوعزة قليلاً وتأكد أن لحيته خالية من أي بقايا بطاطس مقلية من ليلة البارحة، وأدلف خارجاً من بيت والديه. الجو كان مشمساً قليلاً اليوم والسماء صافية، ذلك النوع من الأيام الذي تزقزق فيه العصافير وتركض القطط عبر الشارع، لكن لم تغد هناك أية عصافير في حي بوعزة بعد أن تلوث الجو بدخان المصانع المبنية حديثاً، والتي توظف العديد من الشبان إلا هو، أما القطط فتم طردها من طرف أطفال الحي الذين ما فتأو يرشقونهم بالحجارة كلما ظهر واحد من تلك المخلوقات الأليفة. كانت سيارة عبيقة واضحة من بعيد، لا تزال عليها أثار الليالي المجنونة التي اجتمع فيها الإثنان مع بقية أصدقائهم، ورأى بوعزة صديقه وهو يترجل من السيارة ليلقي التحية عليه، وعلى وجهه لحية كاملة جعلت لحيته المرقعة تشعر بالغيرة وفكر في نفسه “ذلك السافل، حتى في شعر الوجه أصبح أحسن مني”، وقبل أن يفتح عبيقة فمه ليتكلم وجد بوعزة نفسه يضحك ويشير إلى لحية صديقه وقال بين قهقهة وأخرى نكتة مسروقة من أحد مسلسلاته المفضلة “لحيتك… إنها أشبه بشعر عانة على وجهك”.

طبيعة بوعزة المازحة تسمح له بإهانة أصدقاءه على الدوام بهذه الطريقة، فيظنون جميعاً أنه يمزح معهم، ورغم أن في إهاناته تلك قليل من المزاح إلا أن جزءاً كبيراً منها في الحقيقة يقصد به الإهانة، إنه ذللك النوع من السفلة. إبتسم عبيقة وقال “أرى أنك لا تزال على طبيعتك السافلة، أيها السافل الطويل”. عانق الإثنان بعضهما البعض وتبادلا بعض المجاملات المعتادة في مثل هذه اللقاءات. ما أن صعد الإثنان للسيارة حتى استئنفت المناكفات المازحة بين الإثنين، “أرى أنك لا تزال تقود سيارة الأقزام” قال بوعزة، لكن عبيقة كان هذه المرة مستعداً بالرد المناسب “السيارة لا تزال بنفس الحجم، أنت الذي تطول في كل مرة أراك فيها”، قبل أن يضيف بابتسامة عريضة، إبتسامة شخص كان يتوقع هذه النكتة حول سيارته ووجد لها أخيراً رداً مناسباً، “هذه سيارة فيات أونو عادية، لكنك عندما تصعد إليها تصبح سيارة فيات أونو Coupe”، ثم أوضح نكتته بعد أن بدا أن بوعزة لم يفهمها، قائلاً “لأنك تعيد كُرسيك للخلف لدرجة أن لا أحد يستطيع الجلوس خلفك.”، الأمر الذي لم يجد بوعزة بُداً منه سوى الضحك، لكنه — مهما كان يحب ويقدّر نكتة جيدة — ما كان ليسمح لعبيقة بالكلمة الأخيرة هنا، ولهذا رد عليه على الفور قائلاً، “هذا لأنها سيارة أقزام”، وكانت ضحكة الإثنين نهاية لهذا النقاش.

قد يبدو هذين الإثنين من الخارج وكأنهما يكرهان بعضهما البعض، وهذا أبعد ما يمكن عن الحقيقة، صداقتهما لا تزال قوية بفضل صراحتهما الجارحة مع بعضهما البعض، وهذا التنافس كان دوماً محركاً إيجابياً لعلاقتهما ومسيرتيهما الدراسية و العملية، إلى أن توقفت مسيرة أحدهما بينما حلق الأخر بعيداً. كان الخاتم البارز على أحد أصابع عبيقة أول ما لاحظه بوعزة في صديقه الذي بدا مختلفاً عن أخر مرة رأه فيها، لكن ذلك كان منذ سنوات وبالكاد يذكر أي شيء من لقائهم الأخير سوى أنه كان أخر مرة يرى فيها أصدقائه مجتمعين في مكان واحد، كان ذلك اليوم هو يوم ازدياد أول أطفال المجموعة والذي أقيمت على شرفه حفلة كانوا جميعاً مدعوين لها. كانت تلك الحفلة هي اللحظة التي أدرك فيها أن كل أصدقاءه أصبحوا بالغين حقاً بينما لا يزال هو يقضي أيامه يشاهد المسلسلات ويتناول أطعمة الشارع، لكن بدل أن يتخذ من ذلك لحظة لتغيير حياته، اكتنف بوعزة مكانته الجديدة كطفل المجموعة بالقيام بأشياء طفولية ظناً منه أنها مضحكة. تردد بوعزة في سؤال عبيقة عن الخاتم، مدركاً تمام الإدراك أن هذا السؤال سيعود ليعضه في المؤخرة نظراً للحالة المزرية التي تعيشها حياته العاطفية حالياً، لكن كما يعلم الجميع فإن السافل الطويل الملتحي لا يستطيع مقاومة إطلاق نكتة ملغومة فور ما تتكون الفكرة في رأسه.

“هل ذلك خاتم خطوبة أم أنك بدأت تكتشف أخيراً جانبك الأنثويّ؟”، سأل بوعزة بنبرة ساخرة وقهقهة خفيفة، “نعم، لقد خطبت” جاء الرد من عبيقة، قبل أن يعقب “ماذا عنك؟” بابتسامة توحي بأنه يعرف مسبقاً ماذا ستكون الإجابة على هذا السؤال، “للأسف لسنا جميعاً محظوظين مثلك” رد بوعزة بنبرة ملؤها الإحباط، محاولاً إثباط عزيمة صديقه عن الدخول في هذا الموضوع بإثارة تعاطفه، لكن هذا لم ينجح إذ أعقب عبيقة قائلاً “لا تقلق من تلك الناحية، أنت شخص مثير للإهتمام، تحتاج فقط إثارة إنتباه الشخص المناسب” بنبرة لم يعرف بوعزة ما إذا كان يقصد بها الصدق أو التهكم، وأجابه “أنا طولي 2 امتار ولدي لحية وشعر كثيفان، أنا أثير إنتباه الجميع، ما أحتاجه هو أن يتوقف الجميع عن الإنتباه لي”، هذه الإجابة جعلت عبيقة يهز رأسه كمن سمع هذا الهراء من قبل، وقال:

“اعفني من هذا الهراء، أنت الشخص الوحيد الذي أعرفه والذي يتلذذ في جعل معاناته عذراً لكل شيء خاطئ في حياته”

“ما الذي تعنيه بذلك؟” رد بوعزة، متفاجئاً من صراحة عبيقة

عم الصمت في السيارة، كلاهما يفكر في كل ما قيل للتو. بدا على وجه عبيقة الندم، لكن بوعزة كان يفكر ملياً في ما قاله صديقه، وصمته كان دليلاً على أنه لم يكن لديه أي رد على كلامه،’ربما هو محق’ فكر في نفسه، ‘أو محق جزئياً على الأقل’.

“أنت محق بعض الشيء، لكن هذا لا يعني أن الفتيات فجأة أصبحن يحببني فقط لأن صديقه القبيح ذو لحية شعر العانة لم يعد يتسكع معه لينفر الفتيات منه”

“مما أذكر، كنت تبلي البلاء الحسن من هذه الناحية حتى عندما كنت موجوداً لأجعلك تظهر بمظهر قبيح، على حد تعبيرك، لكن مشكلتك لم تكن أنا. كنت تحكي لي دوما تلك القصص عن مواعيدك، اتذكر تلك المرة التي قلت لي فيها عن تلك الفتاة التي سافرت من دولة أخرى والتقلت بك وفي طريقكما للمطعم قالت لك ‘إن الجو بارد في هذه المدينة’ ورددت عليها قائلاً ‘نعم، كنت سأخبرك بذلك قبل قدومك إلى هنا'”، وضحك عبيقة كمن يتذكر نكتة مضحكة جداً

“لم يكن ذلك موعداً غرامياً” رد بوعزة بحزم

“آه، نسيت أن لديك دائماً أعذار جاهزة”

يتذكر بوعزة ذلك المساء جيداً، كان الجو خريفاً، وبسبب قرب المكان الذي كانا فيه من الشاطئ، كانت هناك رياح قوية وباردة. يتذكر، أيضاً، تلك المحادثة التي أجراها مع عقله، بسبب تأثير هومر سيمسون عليه.

– هل قصدت بكلامها أن نعطيها معطفنا؟
– لا، ذلك شيء لا يحدث سوى في الأفلام
– هل انت متأكد؟ الأفلام تُبنى على الواقع غالباً
– لا أعلم، لكن أعلم أنك ستبدو غبياً إذا رفضت معطفك. تذكر، انت لست في بلد أوروبي، بقدر ما تود ان تتحيل ذلك.
– صحيح، كما أنني لا أود إعطاءها النظرة الخاطئة، أو الصحيحة، حول لقاءنا هذا، لأنني لا اعرف نظرتها حول هذا اللقاء
– لا تنسى أنك أيضاً ستظهر بمظهر الغبي إذا قبلت معطفك وجلست انت ترتجف بجانبها
– لا أعلم ماذا كنت سأفعل بدونك يا عقلي، كنت لأفقد عقلي غالباً، وأظهر بمظهر الغبيّ كذلك
– تماما، الآن يجب أن ترد عليها بسرعة، لقد قضيت ثانيتين أكثر من اللزوم في التفكير في الجواب، أجب بسرعة ولا تقل شيئاً غبياً

ووفياً لهومر سيمسون، قال بوعزة أغبى شيء ممكن أن يقوله في تلك الحالة. لا تزال هذه الذكرى تؤلمه في كل مرة يرتدي فيها ذلك المعطف.

“حسناً، تلك كانت مرة واحدة فقط”

“ياريت، ماذا عن تلك المرة التي أخذت فيها فتاة إلى مقهى على وشك الافلاس بدل المطعم الذي اتفقتم عليه من قبل؟” وضحك ضحكة قوية كادت ان تجعله يدهس السيارة التي أمامه، لكنه تدارك الأمر وداس على المكابح في الوقت المناسب، ثم أضاف “ألم تقل لي أنه لم يكن لديهم طعام بالمرة، وأن طاقم المقهى جلس غير بعيد منكم وكأنهم يتسلون بموعدكم ذاك”. عبيقة سيتسبب بحادث ما حتماً إذا استمر في استذكار مصائب صديقه من كثرة الضحك التي تجلبها له.

لم يكن الأمر مضحكاً أنذاك لبوعزة، الذي كان قد اختار في ذلك اليوم مطعما جديداً ليأخذ الفتاة له، المشكلة هو أنه لم يكن يعرف جيداً المنطقة التي يوجد فيها المطعم، صادف ذلك أن الفتاة كانت تتحدث بصوت خفيض، فوجد نفسه مضطراً لينظر إلى حركة شفاهها ليعرف ماذا كانت تقول، مما يعني أنه لم يكن ينظر إلى الشارع حقاً، ولم يلحظ نفسه وهو يتجاوز المطعم بعدة شوارع، فوجد نفسه ضائعاً في هذا المكان الذي يفترض به أن يعرفه، ومن التوتر وحد نفسه يدخل بدون شعور إلى أول مكان مفتوح وجده أمامه فقط لكي لا يُشعر الفتاة بأنه أبله تاه عن طريقه وﻻ يعرف المنطقة.

هذا لم يمنع أن بوعزة ظهر بمظهر الأبله على أية حال، حيث اتضح ان المكان لم يكن مطعماً، وإنما مكاناً ليس له صنف حقاً، وإذا أردت ان تختلق له صنفاً فسيكون على الأرجح في صنف “مكان على وشك الافلاس لا يقدم سوى المشاريب”، وحتى هذا لا بأس به، باستثناء انه يجعل بوعزة يبدو بخيلاً بدون أن يقصد ذلك. وحبة الكرز فوق ذلك كله، طاقم المطبخ الذي جلس غير بعيد عنه بدى وكأنه يتسلى بمعاناته الواضحة في إقامة محادثة مع شخص يعرفه منذ زمن طويل والذي فجأة أصبح يبدو وكأنه لا يعرفه على الإطلاق.

بوعزة يتذكر كل هذه التفاصيل لأنه فكر في تلك اللحظات وغيرها مئة مرة، ولم يتحدث عنها سوى لشخص واحد هو عبدالقادر، ووجدها مثالاً مثاليّاً حول أنه رغم عيوبه كلها، حتى تلك التي يتشبث بها كأعذار، هناك أشياء كثيرة لا يمكن لبوعزة أن يسيطر عليها.

حاول بوعزة تغيير المحادثة وتحويلها إلى جانبه، “على أيّ، متى موعد حفل زفافك؟ وهل أنا مدعوّ؟ وهل إخترت إشبينك بعد؟ لابد أن تختارني!”

“إشبين؟ هل تظن أن هذه أوروبا؟” قال عبيقة بقهقهة خفيفة، “الزفاف سيتم عما قريب، وأنت مدعوّ من دون شك، لكن هل ستأتي؟”

“باستثناء ما إذا كانت هناك مباراة لمانشستر يونايتد في نفس وقت زفافك، سأكون بين الحاضرين على الأرجح، لكي يتسنى لي إلقاء النكات على مدى بخلك عندما يتضح أن الدجاج مثل المطاط وأنك جلبت فرقة سعيد الحوّات لتعزف في زفافك” قال بوعزة بينما توقفت السيارة عند ضوء أحمر في مكان لا يعرفه من المدينة، “إلى أين نحن ذاهبون الآن، بالمناسبة؟ لا أحد يسلك هذه الطريق أبداً”

“والدها هو من سيدفع لكل شيء، فلذلك أية شكوى لديك يمكنك توجيهها له شخصيا، والفرقة الموسيقية التي تقصدها تدعى فرقة سعيد ولد الحوات، حتى نكاتك لا تستطيع أن تقولها بشكل صحيحً” رد عبيقة، “أما الطريق… نحن ذاهبون إلى هذا المكان” وأخرج من جيبه ومدها لصديقه.

“نادي عزاب؟ هل تريد القيام ببعض التسوق قبل أن تشتري زوجتك بشكل نهائي؟” مزح بوعزة، ملتفتا إلى يمينه حيث وقفت سيارة بيك أب بجانبهم. كانت السيارة محملة بحصان في الخلف، وثلاثة أشخاص منحشرون في الكابينة الأمامية للسيارة. من الواضح أنهم قادمون من، أو متجهون إلى، الموسم، حيث تنظم ألعاب الخيالة كل سنة.

“وا فين أ العود؟”، قال بوعزة، مخاطباً الحصان، مثيراً ضحك السائق ورفيقيه، وعبيقة كذلك، والحصان أيضاً بدا وكأنه يضحك.

ليس حقاً، نظر السائق إليه شذراً، وكأنه أب سمع للتوّ شخصاً يغازل بنته، نظرة من نوع “من قال لك أنك مسموح لك بالحديث مع حصاني؟”، نظرة قوية لدرجة أنها جعلته يرفع نافذة السيارة خشية أن تصيبه لعنة ما، الموسم هو مناسبة لأصحاب الضرائح والأولياء الصالحين، لا تود العبث مع أولئك الناس.

شاح بوعزة بنظره بسرعة قبل أن يحدث شيء، لكنه وجد أن عبدالقادر هو الأخر لم يكن سعيداً بنكتته. “لا تفعل أياً من مزحاتك” قال له، “عندما ندخل إلى النادي، أريدك أن تكف عن قول مزحاتك السخيفة والتصرف بجدية أكثر.”

“مزحات سخيفة، ما الذي تقوله يا رجل؟ نكاتي هي الأفضل!”

“أحياناً، لكنك عندما تقوم بنكتة جيدة، لا تعرف أبداً متى تتوقف، دائماً ما تأخذ الأمر أبعد من اللزوم”

“غير صحيح!” اعترض بوعزة

“هل تتذكر تلك المرة التي اشتريت فيها هدية لحفل سبوع طفل سناء الأول وقدمتها لها قائلاً أنها هدية منا نحن الإثنان؟” سأله عبيقة، وقد عادت السيارة للحركة بعد أن أنير الضوء الأخضر.

“ما هذا؟ يوم النوستالجيا العالمي؟” مزح بوعزة، قبل أن يرى التعبير الغاضب على وجه صديقه. “لا نكات؟ حسناً. نعم أتذكر ذلك اليوم، ماذا به؟”

“هل تتذكر ما فعلته عندما قالت لنا مبتسمة ‘لم يكن هناك حاجة لهدية’، وهو ما يقوله البالغون عادة عند استلام الهدايا؟”

بوعزة يتذكر ذلك اليوم جيداً، أنه أيضاً واحد من تلك الأيام المحرجة التي يتذكرها بوعزة باستمرار عندما لا يكون لديه شيء أخر لفعله، لكنه يفضل أن يعبث مع صديقه قليلاً، “لا، لكنني متأكد أنك ستخبرني بعد قليل”

“التفتت إلي وقلت: أترى، قلت لك أننا لسنا بحاجة لشراء هدية”

“كانت تلك مزحة، من الواضح أنها مزحة”

“هذا ما ظننته أنا أيضاً، إلى حين خطفت الهدية من بين يديّ سناء وهربت”

“نعم، لكنني عدت بعد خمسة دقائق” اعترض بوعزة، “هذا يسمى: الإلتزام لأجل النكتة”

“لهذا السبب لم يعد أحد من أصدقائنا يدعوك لمناسباتهم”

“ظنت أن ذلك فقط بسبب لحيتي التي ترعب أطفالهم”

“ذلك أيضاً”، رد عبيقة، وهو يهز رأسه.

“حسناً، لا نكات، سمعاً وطاعة.” قال بوعزة، مُطأطئاً رأسه

“ولا تسأل النسوة أية أسئلة غير مناسبة”

“أسئلة غير مناسبة؟ مثل ماذا؟”

“لا تسألهن عن عمرهن مثلاً”

“وماذا لو وددت أن أعرف عمرهن؟”

“قم بطرح أسئلة والتخمين من خلال أجوبتهن” رد عليه عبيقة، كمن لديه تجارب سابقة عديدة في هذا الموضوع. “اسألهن عن مستواهن الدراسيّ مثلاً”

“وماذا إذا لم تكن تدرس؟” سأل بوعزة، كمن يخطط لكل السيناريوهات المحتملة في هذه المحادثات المفترضة مع الجنس الأخر

“اسألها أسئلة ثقافية عامة حول فترات زمنية معينة، موسيقى أو أفلام وما إلى ذلك، أو ألعاب فيديو حتى”

“يعني مثلاً إذا كانت السوبر نينتندو لعبتها المفضلة فهي ولدت في التسعينات غالباً، هكذا تقصد؟”

“نعم، شيء من هذا القبيل”

“وإذا كانت تعرف بأمر علاقة آن هيش وإلين ديجينيرس السحاقية فهي غالباً ولدت قبل التسعينات، أليس كذلك؟”

“ماذا؟ لا أحد غيرك يعرف من تكون آن هيش أصلاً فما أدراك بعلاقتها السحاقية مع كوميديانة في أواخر التسعينات أو مطلع الألفية الثانية”

“ها! أنت تعرف من تكون وتعرف الإطار الزمني لعلاقتهما. الكل يعرف آن هيش، الكل يعرف أنها مريضة نفسياً، لأنه لا أحد سليم عقلياً يدخل في علاقة مع إلين ديجينيرس، خصوصاً إذا كانت كل علاقاتك السابقة واللاحقة مع رجال” علق بوعزة، بابتسامة عريضة على وجهه.

أوقف عبدالقادر السيارة أمام مكان اشبه بحانة، وقال “رجاء لا تفعل أياً من حماقاتك، لديك فرصة لتجرب شيئاً جديداً لأول مرة في حياتك، لا تفسد الأمر”. رفع بوعزة يديه كمن يستسلم في إشارة إلى موافقته وترجل الإثنان من السيارة، ودخلا من الباب الذي أعلاه لافتة تقول “حانة النقشبندي”، يا إما أنها أكثر حانة صوفيةً في العالم أم أنه مجرد الإسم العائليّ لمالك المكان. إكتشف الإثنان عند دخولهما أنهما اللحيتان الوحيدتان في المكان، إذا على الأقل الروحانية في هذا المكان تقدم على هيئة مشروب.

استقبلهما مُرشد أو مقدم، أو أنه كان في الحقيقة مجرد نادل ببذلة مختلفة، أخذ منهما الدعوة، التي هي الورقة التي كانت بحوزة عبيقة، وشرح لهما كيف تجري الأمور في هذا المكان: هذه حانة لكنهم ممنوعون من تقديم المشروبات الروحية قبل الساعة الثامنة مساءاً، فلذلك يتم تحويل الحانة إلى “نادي عزاب” للتعارف والدردشة. باستخدام نظام الدعوة، يحافظ النادي على نوع من التوان بين الذكور والاناث، والمكان غير مزدحم بل مليء بالقدر الكافي الذي لا يجعله فارغاً ولا ممتلئاً عن أخره. كأي حانة، هناك منضدة كبيرة أمامها كراسي، وهناك عدة طاولات بكراسي عالية منتشرة في المكان، وبدا المكان نابضاً بالحياة من خلال المحادثات الكثيرة التي تسمعها حتى من الخارج.

كعادة هذه الأماكن، المشروبات مبالغ في ثمنها، لكن بما أن عبيقة هو من سيدفع لم يبدُ بوعزة ممانعاً للأمر كثيراً. أخذ الإثنان مشروبيهما وتقدما تجاه أقرب طاولة، حيث كانت تجلس فتاتان، واحدة شقراء نحيفة وقصير، وأخرى أطول منها بقليل ذات شعر أسود ونظارات هيبسترز. ابتسم بوعزة وبدأ الحديث:

– “هل تعلمين أنني فتى أحلامك؟”، مخاطباً الفتاة القصيرة:
– “حقاً؟ وكيف ذلك؟”
– “في الأفلام, ما القاسم المشترك بين كل فتيات الأفلام الرومنسية وفتى أحلامهن؟”

هزت الفتاة كتفيها، فأجابها بوعزة “في الأفلام, عندما تستعير الفتاة قميص حبيبها, دائماً ما يكون القميص أكبر من حجمها بكثير.” وأشار بيديه إلى قامته الطويلة. “لا”، قالت الفتاة، وكأنها بريتني سبيرز في أسوء تجارب أداء في تاريخ إكس فاكتور، ثم حملت مشروبها ورحلت برفقة صديقتها بلا عودة.

“ماذا تفعل يا رجل؟” صرخ عبيقة عليه، “ألم أقل لك للتو أن تكف عن حركاتك الغبية.” قبل أن يضيف، ” ابدأ بشيء بسيط، قم بالتحية وتعريف نفسك أولاً، ثم خذ المحادثة من هناك. هيا، لنجرب ذلك الثلاثي الجالس في الطاولة البعيدة تلك، دعني أبدأ المحادثة هذه المرة”، وحمل الإثنان مشروبيهما الغازيين وتقدما نحو طاولة الثلاثة فتيات. ثلاثتهن كن جميلات للغاية، ذلك النوع من الفتيات ينظر دوماً للأمام لكن لا ينظر إليك أبداً مهما حدقت، ذلك النوع الذي يكون مضحكاً جداً أن تراه يخطو في الغائط لأنه لا ينظر أبدا للشارع، ذلك النوع من الفتيات.

“مرحباً, أنا أ–“، ما فتأ بوعزة يقدم نفسه إلا وبدأت الفتاة الوسطى تقهقه وتهمس لصديقاتها، مما جعله يطرح السؤال، “ما المضحك؟”

– “هل سبق لك وأن ركبت القطار؟”
– “سؤال غريب، لكن نعم، أركب القطار”
– “هل يرمقك الكبار بنظرات غريبة؟”
– “أحياناً”
– “هل يبدو الأطفال مسرورين لرؤيتك؟”

“ما هذه الأسئلة الغريبة”، تسائل بوعزة في نفسه، لكنه بالفعل نوعاً ما شخص يثير انتباه الأطفال، إذ كلما مر من جانب مدرسة يجد نفسه محط انتباه الأطفال الذين يحدقون إليه ويشيرون بأصابعهم إلى الطويل المشعكك الملتحي المار من جانبهم، وكلما لكز أحدهم صديقه ليشير إليه أثار ذلك ابتسامه، ولم يجد سبباً يجعله يكذب عليها، فأجاب قائلاً “في بعض الأحيان”.

“لا عجب, فقامتك الطويلة و لحيتك الكثيفة تجعلك تبدو كـهاغريد نحيف فيظنون أنهم على القطار المتوجه نحو هوغوورتس” ردت عليه، مثيرة ضحك الجميع، حتى صديقه الواقف بجانبه.

“واو، نكتة نحافة وطول ولحية في آن واحد، نادرة جداً هذه النوع من النكات”، قال بوعزة في نفسه، وتملكه شعور غريب بأنه قد سمع هذه النكتة من قبل، أو ربما يتخيل ذلك. العجيب أنه لم يستطع أن يجد لنفسه جواباً، رغم أن الرد على الاهانات من تخصصه. بدلاً عن ذلك، حمل مشروبه، وترك الطاولة بحثاً عن محادثة أقل عدوانية. لقد قرر، في قرارة نفسه، أنه سيتجاهل نصائح عبيقة وسيحاول الاستمتاع بالأمر قدر الإمكان. سيعرّف نفسه بأكثر الأسماء غباءاً، مثل “حميدة” أو “المعطي” أو “رضوان”، وسيخبرهم أنه يعمل في وظائف مختلقة، مثل “دكتور كمبيوتر… الشخص الذي يقوم بحديث مطول مع كمبيوترك ثم في نهاية المطاف يحبرك أن جهازك به يعاني من مشاكل أبوية، بسبب غياب الفاذربورد”، إذا كان سيتعرض للرفض من طرف فتيات أجمل منه في حانة رديئة، فعليه اللعنة سوف سيستمتع بالأمر.

أمسك بعبيقة من ذراعه وتوجه إلى أقرب طاولة، حيث كانت تجلس فتاة وحيدة.

“مرحباً، أنا أدعى الجيلالي، وهذا صديقي حمادشة” قال بوعزة، مثيراً تنخيرة غاضبة من صديقه

“أهلاً الجيلالي، لم أعتقد قط أنني سألتقي بشخص من هذا الجيل يدعى الجيلالي، أنا سارة”

“ماذا يمكنني أن أقول، والداي كانا تقليديين للغاية. على الأقل إسمي ليس حمادشة، أليس كذلك؟” رد عليها وهو ينظر إلى صديقه، بابتسامة عريضة.

ضحكت الفتاة وسألته، “في ماذا تعملان؟”

“كلانا مبرمجان”، تدخل عبيقة مُجيباً، ليمنع أن تذهب هذه المحادثة لأي اتجاهات غريبة

“حقاً؟ هل برمجتما أي تطبيق معروف؟” سألت سارة، بنبرة شخص يدّعي الاهتمام بمهنة شخص أخبرها للتو أنه جامع أزبال

“ربما سمعتِ بتطبيق الشكلي فالعقلي؟”

“هل تقصد الشكلي فالعكلي؟”، ردت سارة، مشيرة إلى مقولة مغربية شائعة حول خلط الأمور ببعضها البعض

” لا، ذلك تطبيق منافس، يستخدمه القبيحون فقط.” علق بوعزة، مضيفاً “الشكلي فالعقلي هو تطبيق مواعدة متخصص في ربط الأشخاص الجميلي الشكل بالأشخاص الجميلي العقل، يعني مثلاً لديك عالم فيزيائي يريد مواعدة واحدة فاتنة، التطبيق يربطه بفتاة جميلة تبحث عن شخص ذكي.”

“أليس من المنطقيّ أكثر أن تربط الأشخاص الذين يبحثون عن شريك بذكاء متقارب بنظيرهم والأشخاص السطحيين الذين يبحثون عن الجمال بنظيرهم؟”

“تباً، هذه فكرة أفضل. لماذا لم أفكر فيها؟” قال بوعزة، وسمح لنفسه بأن ينجر في هذه المحادثة وكأن هذه الفتاة مهتمة حقاً به، غير مدرك لنبرتها الساخرة، وسأل “ماذا عنكِ، في ماذا تعملين؟” لكنها كانت تهم بالرحيل بالفعل، “مهلاً، إلى أين انت ذاهبة؟” سألها بسرعة.

“أنا من مستخدمي التطبيق الذي يربطك بالأشخاص الأذكياء والجميلين في آن واحد”، أجابته بابتسامة عريضة قبل أن تحمل مشروبها وترحل

ابتسم بوعزة لذكاءها والتفت نحو صديقه وسأله “حمادشة، هل تظن أنها قصدت أننا لسنا جميلين أم أننا أغبياء؟”

كان بوعزة مستعداً للانتقال مباشرة للطاولة التالية ليستكمل ما بدأه، لكن عبدالقادر أمسكه من يده وقال “دعنا لا نقفز من طاولة إلى أخرى بهذه السرعة، ستثير انتباه الجميع إليك وستنفر الفتيات منك”، قبل أن يضيف، “دعنا نقف في هذه الطاولة لبعض الوقت لعل الفتيات ستأتين إلينا”، اقتراح بدا منطقياً لبوعزة، ولذلك وقف الاثنان في مكانهما يحتسيان مشروبيهما في انتظار أن تعيرهما فتاة ما انتباهها.

بعد مرور خمسة دقائق، كان مشروب بوعزة قد نفذ، أما صبره فكان قد نفذ قبل أربعة دقائق، ولم يعد يتحمل الوقوف هكذا كالأبله، لابد أن يفعل شيئاً ما. فجأة، عندما مرت فتاة ما من أمامهما، صرخ قائلاً، “هلا اعطيتنا فرصة على الأقل؟!”

لفت هذا انتباه الفتاة، التي كانت حتماً أجمل من مستوى بوعزة، وبدا وكأنها ستستمر في طريقها إلا أنها التفتت وعادت لتقف أمام بوعزة وصديقه، وللوهلة ترددت كما لو أنها نادمة على قرارها هذا، لكنها قالت بالنهاية، “حسناً، يمكنك أن تسألني سؤالاً واحداً”

نبرتها الاستعلائية لم ترق لبوعزة، الذي كان يتطلع حقاً لمحادثة يقول فيها الفتاة أنه من جيل السوبر نينتندو وسترد عليه هي أنها من جيل السيغا ميغا درايف، وسيتناقش الاثنان بضراوة حول ما إذا كانت نسخة لعبة علاء الدين أفضل على السوبر أم على الميغا درايف، ثم ستهجره الفتاة على الفور عندما يظهر تعصبه لموقفه لأن السيف في نسخة الميغا درايف، على حد قوله، يجعل اللعبة سهلة وللأغبياء، بينما السيف غير موجود في نسخة السوبر، مما يجعلها لعبة أصعب، وبذلك، النسخة الأفضل.

“عندما تتغوطين، هل تمسحين مؤخرتك جالسة ام واقفة؟” سأل بوعزة بتعبير وجهي لم يبدُ عليه المزح على الإطلاق

بدت الفتاة مصدومة جداً من هذا السؤال، لكن لم يكن بوعزة متيقناً هل هي مصدومة من طبيعة السؤال أم فقط لأنها لم تفكر قط أن البشر يمسحون مؤخراتهم بطرق مختلفة

“وهل تمسحين مؤخرتك من الأعلى للأسفل أم من الأسفل للأعلى؟” أضاف بوعزة قبل أن تتمكن الفتاة حتى من اغلاق فمها الفاغر جراء هذه الصدمة المزدوجة.

ثم في نفس اللحظة، غادر كل من عبيقة والفتاة الطاولة في نفس الوقت كما لو أنهما متناغمان، في اتجاهات مختلفة. لكن هذه الهزيمة الصغيرة ما كانت لتثبط عزيمة بوعزة، الذي بدأ يفهم للتو قواعد لعبة نادي العزاب هذا، لن يكون الأمر سهلاً إذا أراد أن يخرج غانماً من هنا، يجب عليه أن يحسن من أداءه، يجب أن يختلق كذبات أفضل، لكن أولاً، يجب عليه أن يطلب مشروباً أخر. توجه بوعزة مباشرة نحو الساقي وطلب أكثر مشروب رجاليّ لديه، “بيبسي؟” قال الساقي، “البيبسي ليس أكثر مشروب رجاليّ في صنفه حتى، تلك المرتبة مخصصة لكوكاكولا” رد عليه بوعزة، مثيراً ضحك الفتاة الجالسة بجانبه على المنضدة، كان لدى الفتاة ابتسامة فريدة من نوعها، تذكره بابتسامة آنا كندريك.

“مرحباً، أنا محجوب الملاوي، مسرور بلقاءك”

“محجوب؟” ردت الفتاة، “أظن أن هذا يجعلني طامو الضاوية، أليس كذلك؟”

“متشرف بلقاءك يا طامو، في ماذا تعملين يا طامو؟” أجاب بوعزة، مستبقاً السؤال هذه المرة

“أنت أولاً”، ردت عليه

لم يأخذ بوعزة في الحسبان أن هؤلاء النسوة فطنات جداً، وسيضطر الآن لتأليف شيء ما بسرعة “أترين ذلك الشاب الجالس لوحده هناك” قال مشيراً إلى عبدالقادر، “نحن في فرقة موسيقية.”

“حقاً؟ هذا رائع، ما اسم فرقتكم؟”

تلكأ بوعزة قليلاً بحثاً عن اسم يستطيع أن يفسره، لكن عقله كان عالقاً مع آنا كندريك، “اسم… الفرقة… هو… قريش بيرفكت… نحن مثل Pitch Perfect لكننا نقوم بغناء الأغاني المشهور كلها على طريقة أكابيلا، أي بدون معدات موسيقية، وهكذا نجعل كل أغاني العالم حلال، ونترك النقشبندي فخوراً”

“أها، وما بال الإسم؟”

“نقوم أيضاً بغناء بعض الأغاني والأشعار الجاهلية، من باب التنويع”

“حقاً؟ هل يمكنك غناء شيء ما لي الآن؟”

“للأسف،” قال بوعزة، متصنعاً الحزن “أنا أريح صوتي حالياً، لدينا تسجيل الليلة لقصيدة تمزميزين ألامي” قبل أن يضيف في أخر لحظة، “الآن دورك، ماذا تفعلين في هذه الحياة؟”

“أعمل راكنة سيارات في مرأب فندق الهيلتون المجاور لهذه الحانة”

“حقا؟” بدا الجواب صادقاً جداً على أن يبدو نكتة، “هل هذا يعني أنك سيئة في عملك؟”

بدت طامو محتارة من السؤال، مما استدعى بوعزة أن يوضح نكتته “لأن النساء لا تعرفن كيف تركنن السيارات”، وهو الأمر الذي اضطر الفتاة لسكب مشروبها الغير رجاليّ، كأس بيسي، على وجه بوعزة، الذي احتار هل يعتبر هذا انتصاراً أم لا.

توجه بوعزة نحو الحمام لكي يتنظف، لحيته أصبحت ملتصقة الآن بسبب كثرة السكر في البيبسي، كما أنه قد يستغل الفرصة ليقضي حاجته. الحمام كان مشغولاً، وبينما هو واقف ينتظر خروج الشخص الذي يشغره حالياً، وقفت فتاة خلفه تنتظر دورها هي الأخرى. وجد بوعزة الأمر غريباً ان هذا المكان يحتوي على حمام واحد لكل الأجناس بدل حمامات مقسمة حسب الجنس، لكن الأغرب من ذلك هو أن الفتاة لكزته وهي تسأل “هل الشخص بالداخل فتاة أم رجل؟”، لم يكن بوعزة متأكداً لكنه كان مسروراً أن فتاةً تحدثه بدون أن تكون لئمة تجاهه ﻷول مرة في هذا الصباح، فرد عليها “أظن أنه رجل”، مما جعل الفتاة تتنهد قائلة “فليساعدنا الرب جميعاً”.

اتضح ان المساعدة الربانية لم تكن مطلوبة، إذ عندما انفتح باب الحمام، لم يخرج منه رجل سمين أصلع، وإنما فتاة شقراء نحيفة من النوع الذي يدخل الحمامات عادة ليستنشق أسطراً من الكوكايين (في الأفلام على الأقل)، واللاتي يتركن رائحة طيبة في الحمام عندما يرششن من جديد بعض العطر على اجسادهن (في بلاد أخرى غير هذا البلد على الأقل). التفكير في العطر جعل بوعزة يتذكر شيئاً أخر، إذا دخلت هذه الفتاة الحمام من بعده فإن ذلك سيقتل كل فرصة لديه معها، إذ أن الرائحة التي سيتركها بعد خروجه من الحمام لن تكون رائحة عطر باهظ، وإنما رائحة شخص تناول وجبة هندية على العشاء يوم أمس، وتبادرت في ذهنه فكرة. إصطنع بوعزة ابتسامة صفراء ومد يده مشيراً للحمام وقائلاً “النساء أولاً”، أو هذا ما كان يفكر في قوله على الأقل، إذ قال في الحقيقة “أفضل أن أدخل من بعدك”، وهي طريقة غريبة لتظهر شهامتك لفتاة في حانة رديئة ذات حمام واحد. تراجعت الفتاة للخلف فور سماعها لتلك الجملة، وهربت بأسرع ما يمكنها لتبتعد عن هذا الطويل الملتحي المهووس بدخول الحمام بعد النساء.

عندما عاد بوعزة من قضاء حاجته وجد صديقه عبدالقادر في منتصف محادثة مع فتاة، وقرر الانضمام لهما.

“هذا صديقي، بوعزة”، قال عبيقة، “بوعزة، هذه أسماء”

“أسماء، إسم جميل، للأباء الذين يحتارون في اختيار اسم واحد لطفلتهم، تشرفت بمعرفتك”

“كلام كبير أتٍ من شخص يدعى بوعزة”، أتى الرد سريعاً من أسماء

بعد قليل من التحديق في وجهه، سألته “هل أعرفك من مكان ما؟ وجهك يبدو مألوفاً؟”

“لا أظن أننا التقينا من قبل”، رد بوعزة، “لكن يقال لي دوماً أنني أشبه إيدي ريدماين”

“ومن يكون هذا الشخص؟” استفسرت أسماء، الشخص الوحيد في العالم الذي لا يعرف إيدي ريدماين

“ممثل بريطانيّ، أخذ الأوسكار عن فيلم The Danish Girl”

“لا بل أخذه عن فيلم ستيفن هاوكنغ ذاك. لا أتذكر إسم الفيلم الكامل”، اعترض عبيقة

“أها، The Danish Girl” قالت أسماء، مضيفة بابتسامة عريضة وبحركة يدوية حول ذقنها “أفترض أن هذا يجعلك في هذه الحالة The Daesh Girl”

كان بوعزة ليضحك على هذه النكتة الرائعة لولا أنه يتذكرها، ويتذكر أيضاً أين سمع النكتة السابقة، هذه كلها نكاته الخاصة، يطلقها بين الفينة والأخرى على اصدقاءه. لكن مرّ وقت طويل على ذلك فلم يعد يتذكر الأمر، ولولا أن نكتة داعش هذه حديثة العهد لما كان قد انتبه للأمر البتة. في تلك اللحظة، انتابه رد فعل غريب، أمسك بالفتاة من يديها وطرح عليها السؤال بغضب: “من أين أتيت بهذه النكتة؟ من أخبرك بها؟”

ذعرت الفتاة، لم تدر ماذا تقول، وجلست تنظر إلى عبدالقادر كمن يتوسل إليه ليتدخل، كما لو أنهما يعرفان بعضهما البعض مسبقاً، مما جعل بوعزة ينظر إليه، وعندها انفضح كل شيء.

“اترك يدي الفتاة يا عزوز” قال عبدالقادر، وأردف “ومرحباً بك إلى روست بوعزة الماريواني!” بابتسامة عريضة كما لو أنه يقوم بدعاية لمعجون أسنان.

“ماذا؟ كل هذا…” قال بوعزة، مشيراً إلى المكان بأكمله “هل أنت وراء كل هذا؟”

“نعم، هذا هو انتقامي الكبير منك لكل إهاناتك لي طوال تلك السنوات”

“ماذا؟ كيف أمكن لك أن تفعل كل هذا؟ ماذا عن كل ذلك الهراء الذي قلته في السيارة حول العمل والحب وكل ذلك الهراء؟”

ابتسم وقال، “هذا هو الإلتزام من أجل النكتة، يا صديقي.”

تعليق واحد

  1. Badil BnZineb
    يونيو 14
    Reply

    أطرف الأسطر
    “واو، نكتة نحافة وطول و لحية في آن واحد”
    “تباً، هذه فكرة أفضل. لماذا لم أفكر فيها؟ ”
    _______________

    قصصك كلها إخفاقات يا رضوان
    سيكون من الممتع أن نقرأ لك قصة ناجحة
    أو على الأقل قصة ناجحة تنتهي بإخفاق
    و هكذا تكون تجارية بما بكفي لإمتاع و شد القارئ
    و حكيمة بعدم الإستمرار في ما يشبه القصة الخرافية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

+ 49 = 56