يمر جميع البشر خلال حياتهم على كوكب الأرض بموقف واحد جدير بالذكر على الأقل على متن المواصلات العامة، وإذا كانوا محظوظين، يكون الموقف طريفاً أو مثيراً للاهتمام، أو في أسوء الأحوال، محرجاً لكن ذو قصة ممتعة يمكن أن تحكى في المناسبات العائلية أو في المواعيد الغرامية. لدي مجموعة من المواقف على متن الباصات والقطارات وسيارات الأجرة، لكن ولا واحدة منها كانت طويلة كفاية لتعتبر انها قصة، أو مثيرة للاهتمام بما فيه الكفاية. لكن ها أنا جالس على متن هذا الباص الذي سيأخذني إلى باريس، حيث سيأخذني باص أخر إلى ألمانيا، وكنت مُصراً على العودة من هذه الرحلة بقصة مواصلات عامة والتي سيمكنني أن أحكيها للجميع.
لقد كانت الساعة تشير إلى السابعة صباحاً، الجميع شبه نيام على متن الباص الأول، غالبية الركاب يا إما في محادثات خفيضة الصوت مع زملاءهم في السفر أو غارقون في هواتفهم الذكية، البعض الأخر وضع السماعات على أذنيه وغادر كوكب الأرض، لكن ليس أنا، لم أنسَ سماعاتي في البيت كما يتخيل لك، على العكس من ذلك، لقد اشتريت زوجين جديدين خصيصاً لأجل هذه الرحلة الطويلة. لكنني الآن أبحث عن قصة، يجب أن أُبقي الباب مفتوحاً لسماع شيء ما، أو بدء محادثة. مضت الساعة الأولى ولم يحدث سوى أن السيدة الجالسة بجانبي سألتني عن مكان تواجد المرحاض، لقد بدأت أصيب بالاحباط وتسلل إليّ شعور بأنني لن أحصل أبداً على القصة التي أبتغيها. لكن بينما لم يحدث أي شيء مثير للاهتمام لي، كان هناك شيء يحدث بالتأكيد في الكرسي المتواجد أمامي الذي كان يشغره عشيقان لم يتوقفا عن تقبيل بعضهما البعض منذ انطلاق الرحلة. حسناً، هذه ستكون قصتي إذا، لا يهم أن لا شيء كان يحدث لي في هذه القصة، لا يهم، سوف أجعل منها قصة.
لقد كانا في مقتبل العمر، قوقازيا البشرة، هي شقراء ذات جسد ممشوق وهو وسيم ذو وشم على ذراعه. أمسكت بهاتفي وكتبت نكتة ما على فيسبوك حول أن هناك شخصين يتبادلان اللعاب على متن الرحلة الطويلة التي أنا فيها، وكيف يمكنني أن أقول لهم أن يكفوا عن ذلك لأنهم “يجعلون الانتصابات تظهر”، النكتة كانت مكتوبة باللغة الانجليزية، وهي اقتباس محرّف من نكتة من مسلسل The League، لكنها لم تلقَ استحساناً من طرف أصدقائي، والذين اعتقد أن معظمهم أخذ الأمر على محمل الجد. في الواقع، لم أكن مثاراً بالأمر حقاً، بل ربما غيوراً. هناك شيء ما حول مظاهر الحب العلنية لدى الأوروبيين في الأماكن العامة، سواء كانت قبلات أو غيره، لم تكن أي منها ذات طابع جنسي كما في الأفلام الأمريكية (أو ربما في أمريكا عموماً، وليس فقط أفلامها)، بل إن معظمها تنبع من حب وعطف، وأية مشاعر تأججت في داخلي عند رؤيتهم لم تكن في دماغي الأوسط، بل انها مست أكثر شيء ذلك الشعور بالوحدة الذي اعتدت عليه منذ سنين.
سيتكرر الأمر لاحقاً مع عشيقين مختلفين على متن رحلة أخرى بالباص، رحلة ليلية هذه المرة، حيث سيقوم زوج من العشاق الشباب بالاعتناء ببعضهما البعض بشكل جعلني أشعر حقاً بالغيرة. هاهو يساعدها على النوم ممددة على كراسي الباص القاسية، وهي ستستيقظ لاحقاً عندما يتوقف الباص في محطة بنزين و — قبل كل شيء — توقظه بحنان. في هذه الأثناء، كانت امرأة أخرى تلكزني على كتفي لتسألني عن مكان المرحاض. لا أعلم، هل أبدو أنا حقاً كشخص خبير في أماكن المرحاض؟ ثم بربكم يا جماعة، كل حمامات الباصات توجد في مكان واحد ومعروف. بربكم!
على أيّ، نكتة الفيسبوك لم تنجح، ثم لا يمكن أن تكون هذه هي قصتي الكبيرة، هذا هراء مثير للحزن. لحسن الحظ سأركب باصاً أخر خلال ساعات وستكون هناك فرصة أفضل في حدوث شيء ما لأنه وقتها سيكون قد انتصف النهار ولن يكون الباص مملوءاً بحفنة من الأموات السائرين نحو المرحاض. على ذكر المرحاض، فور نزولي من على الباص الأول توجهت نحو أقرب حمام في المحطة الكبرى لأفاجئ أنه في هذا البلد أيضاً توجد حمامات “عطي درهم دخل تبول” وأنا الذي ظننتني تركتها خلفي في ذلك البلد المشؤوم، لكن هذه المرة الثمن كان أعلى بقليل لأنه باليورو، مما يجعله أغلى تغوّط قمت به في حياتي.
هذه هي! ستكون هذه هي قصتي! أغلى تغوط في حياتي، إنها قصة مضحكة، أليس كذلك؟ “لقد تغوطت في حمام باريسيّ وكان ذلك أغلى تغوط قمت به في حياتي”؟ مضحكة أو لا، لم يكن ذلك كافياً، مع زيادة الأحرف في تويتر، القصة بأكملها قد تكفيها تغريدة واحدة فقط. قررت أن أحتفظ بهذه القصة كخيار ثانوي، لنرَ ما يخبئه لنا القدر في رحلات الباص المقبلة، لعله قصة مثيرة للاهتمام أكثر.
بحلول وقت قدوم الباص الثاني، كنت قد استسلمت للأمر الواقع ووضعت سماعاتي وشغلت بلايليست موسيقية من هاتفي والتي تضم أكثر الموسيقى “ضجيجاً” من بين مئات المقاطع التي نسختها على ذاكرة الجهاز، أنا فاقد لـ90% من سمعي، ماذا لدي لأخسره اذا استمعت إلى Highway To Hell بأعلى صوت ممكن من سماعاتي الرديئة الصنع؟ لن يسبب لي ذلك أي إزعاج. مالم أخذه بالحسبان هو أن ذلك قد يكون مزعج للأخرين.
لذلك، عندما لكزتني الفتاة الجالسة بجانبي على متن الرحلة الثانية، أشارت يدي بشكل تلقائي إلى مكان تواجد المرحاض. لكن اتضح، من خلال التعابير الدالة على الحيرة التي علت وجهها، لم تكن تسأل عن مكانه وإنما — حسب ما فهمته من حركات يدها حول اذنيها — تريد أن تقول شيئاً ما لي. يا إلهي، هذه هي اللحظة التي كنت أنتظرها وتخيلتها ألاف المرات، فتاة شقراء جميلة على متن رحلة طويلة تبدأ محادثة معي ونكتشف أن بيننا قواسم مشتركة كثيرة، نقع في الغرام مباشرة، ونقبل بعضنا البعض بشكل يثير الغيرة في أنفس الجالسين وراءنا. هذه هي قصتي، وسوف أحكيها للأبد.
حسناً، ربما تجاوزت نفسي للحظة عندما سرحت بمخيلتي بعيداً لهذه الدرجة (جزئياً بسبب موسيقى هوبا هوبا سبيريت التي تهيج كل الحواس فيَ، والتي كانت تعزف في هذه الأثناء من قائمتي الآنفة الذكر)، إذ أن الفتاة لم تكلمني سوى لأن تقول أن صوت الموسيقى الصادر من سماعات أذني عالٍ جداً وتود مني أن أخفض الصوت.
محبط جداً، لقد توقعت شيئاً أفضل من شريكة روحي المستقبلية. لكنني لا زلت مصراً على أن أحصل على قصتي اللعينة، وسأفعل أي شيء لكي أحصل عليها، بما في ذلك التصرف بلؤم نحو الغرباء على متن المواصلات العامة، حتى لو كانوا شُقراً وجميلين جداً وجلست بجانبهم عن قصد فقط تأملاً في حدوث شيء ما. حسناً، حدث شيء ما، لكن ليس الشيء الذي كنت اتمناه.
حسب رؤيتي للأمور، كانت هناك ثلاثة طرق لا غير للتعامل مع الأمر:
الطريقة الأولى هي أن أخفض صوت الموسيقى وحسب، أو أغيرها لشيء أقل إزعاجاً، لدي الكثير من الموسيقى الكلاسيكية على الجهاز وأستمع إليها على الدوام عندما أقوم بالبرمجة، وأتخيل أنه ربما في حالات معينة قد تجعلني هذه الموسيقى أبدو مثقفاً أكثر مما أنا عليه في الحقيقة وبالتالي مرغوباً به بشكل أفضل من طرف النساء، لكن تحليلي للوضع الحالي الذي أنا فيه يقول لي أن هذه اللحظة ليست من تلك اللحظات، وأن تغيير الموسيقى إلى شيء أخر لن يرضيها على الأرجح (أو أي شخص أخر في الحقيقة) وأنها تود مني فعلاً أن أخفض صوت الموسيقى، وأخمن أن ذلك لن ينتج عنه أي قصة مثيرة للاهتمام ﻷن الفتاة ستعود إلى أيّ ما كانت تفعله قبل تشغيلي للموسيقى ولن تكلمني بعدها أبداً، وهذا يعني أنني لن أحصل على القصة التي أبتغيها، مما يعني أن هذًه الطريقة مرفوضة قطعاً بالنسبة لي.
الطريقة الثانية تتضمن قليلاً من اللؤم، كيف ذلك؟ سنقلب الأمر عليها. سأنظر إليها بتعبير وجهيّ جاد جداً وأقول “ليس ذنبي أنك لم تجلبي معك سماعات!”. ردي الهجوميّ هذا سيفاجئها ويصيبها بالصدمة، لن تعرف ماذا تقول، ستتلكأ على الأرجح محاولة الإتيان برد ما، لكن لن يخرج من فمها سوى بعض الأصوات، ثم ستنكمش في مكانها ولن تحادثني بعدها مرة أخرى. من جهة، سأحصل على ما أريده وهو الاستمتاع بموسيقى هوبا هوبا سبيريت، لن أضطر للحديث مع أي شخص، لكن من جهة أخرى لن أحصل على قصتي. أعني، ربما يمكنني اختلاق قصة من هذا الرد ومن رد فعلها المحتمل عليه، لكنها ستكون غالباً قصة قصيرة وغير كافية، كما أنني أظهر فيها بمظهر الشرير وهو شيء ﻻ أريده.
أما الطريقة الثالثة… لا أعرف حقاً كيف أصفها لكم، لكن لنتخيل هذه المحادثة:
– معذرة، يمكنني أن أسمع موسيقاك من خلال سماعاتك لأن صوتها عالٍ جداً، هل يمكن..
– ماذا؟ هل تسمعين هوبا هوبا سبيريت؟
– نعم
– أنا كذلك، أحبهم جداً، إنها فرقة رائعة
– ﻻ، ﻻ، أقصد أنني أسمعهم الآن من خلال سماعاتك لأن الصوت عالٍ
– آه، هذا جيد، لأنني أعتقد أن المزيد من البشر يجب أن يستمعوا إلى هوبا هوبا
ثم بعدها، بطريقة سلسة، سأعيد سماعاتي إلى أذنيّ وأعود إلى عالمي الموسيقي الخاص ولن أخفض الصوت أو أغير الموسيقى، وسأحصل على قصة مضحكة بعض الشيء لأحكيها حول الفتاة التي عرَفتها على هوبا هوبا سبيريت على متن الباص الذي سينطلق بعد ربع ساعة من الآن إلى ألمانيا.
المشكلة مع البشر عندما يتعلق الأمر بالسيناريوهات التي تكتبها لهم في مخيلتك، غالبيتهم لا يلتزمون بها، أولئك السفلة الملاعين، وهذه الشقراء اللعينة على الأرجح واحدة من أولئك الملاعين، ولن تعطيني أبداً القصة التي أريدها. نعم أنا أعرف أنه يمكنني تأليف القصة على مزاجي وسردها في المناسبات العائلية وفي المواعيد الغرامية، لكنني عندها سأكون عارفاً أنها قصة مؤلفة ولن تمنحني أبداً الرضى الذي أبتغيه، ولن تجعلني أشعر بأنني رحالة تحدث له مصادفات غريبة مع الغرباء على متن المواصلات العامة، مما يجعله شخصاً مثيراً للاهتمام أوتوماتيكياً.
عند هذه النقطة، أدركت — من خلال وجه الفتاة — أنني أخذت وقتا أكثر من اللازم في الرد على طلبها، وأنه سيتعين عليّ قول شيئ ما بسرعة قبل أن تظن أنني غريب أطوار. حولت وجهي إلى أكثر تعبير جامد يمكنني أن أقوم به، وقلت لها بصوت بارد… “لا”.
أنا متأكد أن ذلك أثار حيرتها، وأنا متأكد أكثر أن حيرتها زادت أكثر فأكثر عندما نهضت مباشرة بعد قولي ذلك تاركاً إياها مع الكثير من الأسئلة التي انبثقت فجأة في عقلها، مثل “هل قلت شيئاً خطأ؟ ما بال هذا الطويل الملتحي؟ من هم هوبا هوبا سبيريت؟”، أو هكذا يتخيل لي.
صعدت للطابق العلوي من الباص وجلست في أول مكان فارغ، وهو الكرسي الواقع أمام السلالم مباشرة، استغربت ذلك في بادئ الأمر لأن هذا المكان في الغالب يكون به متسع أكثر بقليل من الأماكن الأخرى، وهو أمر محبب جداً لطوال القامة مثلي. ستنقضي بعض الدقائق قبل أن أدرك السبب: هذا المكان يتواجد فوق المرحاض مباشرة، مما يعني أنه معرّض أكثر من أي مكان أخر للروائح الطيبة الصادرة من ذلك المكان.
لم أكن سأسمح لبعض الروائح أن تفسد علي متعة المساحة الأضافية لساقيّ الطويلتين وكذا متعة الاستمتاع بموسيقاي المفضلة بدون إزعاج لأن الكرسي بجانبي لا يشغره أحد، لكن حتى هذه المتعة الأخيرة لم تدم طويلاً إذ سرعان ما صعد أحد المسافرين المتأخرين وجلس مباشرة في أول مكان فارغ ظهر له. عند هذه النقطة كنت قد استسلمت في مسعاي نحو حدوث أي شيء مثير للاهتمام على متن هذا الباص، لي شخصياً على الأقل، وبالتأكيد لن يحدث أي شيء بجانب هذا العجوز الذي يعاني الآن محاولاً تسجيل الدخول إلى واي فاي الباص. كان من الممتع رؤية معاناته وهو يحاول فهم النص الألمانيّ الذي يشرح له قواعد استخدام خدمة الواي فاي ويطلب منه التنصيص على مربع الموافقة على هذه القوانين قبل أن يسمح له باستخدام الانترنت، وهو شيء أصبح يأتي تلقائياً لكل مستخدمي التكنولوجيا من الشباب بدون أن يحتاجوا إلى فهم أي كلمة من اللغة الألمانية. تدخلت لأخلصه من معاناته وقمت بالواجب، ابدى امتنانه قائلاً شيئاً ما لم أسمعه، فأجبته “معلش” بلهجة مصرية.
الآن، أنت تتسائل، لماذا لهجة مصرية يا رضوان؟ الجواب واضح، هي تقريباً اللهجة التي يفهمها غالبية العرب إن لم نقل كلهم، كما أن شكله لم يوحي بأنه من الخليج بأي شكل، وكل هذه هي تبريرات منطقية لكنني لا أعرف حقاً لماذا اخترت المصرية في تلك اللحظة، وهو قرار سيؤثر بشكل جذريّ على كل شيء سيحدث لاحقاً.
بما أنني كنت قد توقفت عن البحث عن قصة، لم يكن لديّ أي نية في فتح حديث مع كهل ما على متن باص أوروبيّ، وقررت أنني سألتزم الصمت ولن أبادره الحديث حتماً، وضعت سماعاتي في أذنيّ وعدت إلى عالمي الموسيقيّ وتركته غارقاً في هاتفه النقال.
الباص أصبح الآن على الطريق السيار في طريقه نحو بلجيكا، لكزني الكهل وعلى وجهه علامات الاشمئزاز، حركة يديه حول أنفه كانت تشير إلى أنه كان مستاءاً من رائحة المرحاض على ما يبدو، هززت كتفي وأعطيته تعبيراً وجهياً مفاده “ماذا عساك تفعل؟” وعُدت أكمل ما كنت أفعله قبل أن يقاطعني. لقد ذكرت كلمة “المرحاض” لحد الساعة عشرة مرات، كله خلال أحداث يوم واحد، بل نصف يوم حتى، وهذا لوحده إشارة كافية أنه بدأ ينفذ صبري حول هذا الموضوع، فلذلك كنت اتمنى أن تكون هذه أخر مرة أسمع فيها أي شيء متعلقاً به.
لكن هيهات، لم تمر نصف ساعة حتى قبل أن يخيب أملي، إذ بينما كنت أشيح ببصري بشكل عادي كما يفعل البشر عادة، وعندما وقع نظري على هذا الكائن الجالس بجانبي ابتسمت ابتسامة مؤدبة، لكنه — وكأنه كان ينتظر الفرصة منذ وقت طويل — كرر نفس الحركة حيث رفع يده إلى أنفه مشتكياً من الرائحة. “مانا عارف يا أهبل” قلت في نفسي، “عاوز مني أعمل إيه يعني؟”. الآن أنت تقول، مهلاً يا رضوان، “أهبل”؟ هذا جارح قليلاً. أحب أن أبشرك أن نسبة الشتائم سترتفع بعد قليل.
كان الباص قد توقف في محطة بنزين في بلجيكا، ونزل المسافرون ليدخنوا قليلاً ويشموا القليل من الهواء ويرتاحوا من الرحلة، أنا كنت قد جلبت معي بعض الأكل فابتعدت قليلاً وجلست لأكل، هذا أول شيء أكله منذ حوالي سبعة ساعات فلذلك لم أرد أن يراني الأوروبيون وأنا ألتهم هذا السندويتش في قمة الجوع. على أيّ، بالكاد انتصفت في السندويتش قبل أن يتراءى لي من زاوية بصري أن ذلك اللعين قادم من بعيد متجهاً نحوي. إلهي الرحيم، إمنحني صبراً.
وقف اللعين بجانبي وعرّف بنفسه بلغة إنجليزية مكسرة “أي ام فروم إيران”. ألا ترى أنني أكل أيها اللعين؟ من ضمن الحقوق المنصوص عليها في الميثاق الدولي لحقوق الإنسان هو الحق المكفول لجميع البشر في تناول طعامهم بدون إزعاج. لكنه لم يتوقف عند ذلك، الآن بدأ يسألني أسئلة.
“وير أر يو فروم؟”
“موروكو” قلت له، مضيفاً بصوت خفيض “موروكو يبنلوسخة”
صمت قليلاً، ظننت أن هذه هي نهاية المحادثة، عدت إلى سندويتشي المغربيّ اللذيذ.
“أي رن فروم ڭفرنمت”
لا بد أن مراحيض الحكومة كانت نتنة جداً لدرجة أن تهرب منها أيها اللعين. ثم ما بال هؤلاء الإيرانيين، ألا يخرجون من البلاد إلا هرباً منها؟ ألا يأخذون إجازات عادية مثل باقي البشر؟ أم أنهم يسمون إجازاتهم هرباً من الحكومة؟ تظاهرت بأنني مهتم وقلت له “إنترستنغ”. صمت قليلاً، لكن حتى وأنا أكل سندويتشي كان بإمكانني سماع الماكينات في عقله وهي تدور محاولة تكوين جملة ما ليستكمل بها هذه المحادثة المشوقة جداً.
“يو”، قال وهو يشير بإصبعه إلي، “ويطش كانطري؟”
إله السماوات، “موروكو! موروكو يا ابن المتعة”
ﻻ أعلم من أين أتت “ابن المتعة”، هذه ليست شتيمة معتادة في قاموسي، نادراً ما أشتم مستخدماً الميول الدينية للأشخاص، ولا أستخدم هذه الشتيمة لأنني أجدها مضحكة خارج سياقها الغبي. أعني، “إبن المتعة”؟ أي شتيمة هذه؟ وماذا يقول هذا عنك؟ “والديّ أنجباني كما ينبغي، بممارسة الجنس بطريقة شرعية حيث دخل أبي وخرج في أقل من دقيقتين ولم تكن هناك أي متعة متبادلة بينهما”؟ نعم، أنا أعرف أنها شتيمة متعلقة بزواج المتعة والشيعيين وما إلى ذلك من ذلك الهراء الذي لا اهتم له حقاً، لكنها شتيمة جائت على بالي وقلتها.
نظر إليّ لوهلة، وقال مرة أخرى. “ويطش كانطري؟”
لسبب أو لأخر، تذكرت أنه في بلدهم المتناكة أمه يقولون، في لغتهم المتناكة أمها، “مراكش” بدل “المغرب” أو “موروكو”، كما أن الأتراك، أيضاً بلد ولغة متناك أبوها، يقولون “فاس” في نفس الحالة. لمن لا يعرف، مراكش وفاس هي مدن مغربية، لا أعلم سبب اختيارهم كممثلين لبلدنا في تلك المنطقة المتناكة سلالتها كلها، وفي الحقيقة لست مهتماً ﻷعرف.
“مراكش”، قلت له “ماراكييش”، وأخرسه ذلك لبعض الوقت
صمته كان ثقيلاً، كان بإمكانك أن تسمع أليات تفكيره تدور في جمجمته الصغيرة تلك، وحاولت أن أجهز نفسي لسؤال أخر، لكن لم يكن حقاً بالإمكان التجهز لسؤاله التالي:
“وييطش كانتري؟” قال لمرة ثالثة
أتعرفون ذلك التعبير المتداول “بلغ بي السيل الزبى”، بالنسبة لي، السيل كان بلغ الزبا، وتزبزب، وزبزبت زبزبته، وما عدت قادراً على تحمل هذا الكائن القميئ. من المحتمل أنه كان يود أن يسأل عن المدينة ويقول “وييطش سيتي؟” ولكن دماغه البطيء خانه.
“مراكييش” قلت مرة أخرى، التكرار يعلّم الحمار، كما قال الدكتور والعالم إيفان بافلوف
صمت لوهلة، مرت سيارة أو إثنتنان من أمامنا، ثم بعد تفكير عميق قال “نووورط أفريكا؟”
يا راااااااااجل!
“أي رن فروم ڭفرنمت”
أيوة فهمنا
فتح كيساً كان بحقيبه وأخرج منه حبة تين صغيرة وقدمها لي. رفضتها بأدب، ﻷنني كأي عربيّ أخر دماغي مغسول عن طريق سنوات وسنوات من البروباغاندا التي تصور إيران والإيرانيين كلهم كدولة متخلفة، بينما في الواقع هم يصنعون أفلام رائعة، عمليات تحويل الجنس قانونية لديهم ومدعومة من طرف الدولة، وأنا أحب حقاً تحميل الأفلام والمسلسلات من لديهم با لینک مستقیم. ألحّ عليَّ بحبة التين الصغيرة خاصته، ولم أستطع حقاً أن أرفض، بل بالأحرى صرت متعباً من مجاراة هذا الرجل، أخذت حبة التين وقمت بالبسملة وأكلتها، مع العلم أنني لم أقم بالبسملة عندما بدأت أكل سندويتشي. لا أستطيع تخيل تقرير التشريح الطبيّ الذي سيقرأه والدي غداً وهو مكتوب عليه “سبب الوفاة: حبة تين إيرانية”.
ثم، بينما أنا على وشك تناول القضمات الأخيرة من سندويتشي اللذيذ، رأيته — وكأنما بالعرض البطيء — من زاوية بصري وهو يرفع يده إلى أنفه وعرفت مسبقاً ماذا سيقول.
الآن قولولي يا جماعة، أي نوع من البشر يفتح سيرة المرحاض بينما بشريّ أخر يتناول غذاءه؟
كانت هذه هي القشة التي قصمت ظهر الحمير، لأنني عندها غلفت ما تبقى من سندويتشي ووضعته في حقيبة ظهري واتجهت نحو الباص. تبعني هو على الفور، وعندما اقتربنا من باب الباص قال لي عن طريق مجموعة من الكلمات المنفصلة أنه سيجرب الجلوس في الطابق السفلي لما تبقى من الرحلة ليرى ما إذا كانت الرائحة بنفس السوء بالأسفل، لكنه أيضاً قد يعود للأعلى إن لم يكن هناك فرق.
ابتهجت أنا للخبر وصعدت على الفور، رأيته من النافذة واقفاً بجانب أحد الأوروبيين يقوم بنفس حركات اليد على أنفه، والأوروبي المسكين يهز كتفيه كما فعلت. هل يعقل أن هذا الرجل منزعج من المرحاض لهذه الدرجة أم أن هناك قصة أخرى؟ هل تمت ولادته في مرحاض وأن هذه ليست سوى تجليات حنينه نحو الماضي؟ أم أنه هو من تغوط فيه وأراد أن يتأكد أن الجميع شم رائحته؟
بعض الأشياء لا تستحق تعب التفكير فيها لتلك الدرجة.
في هذه الأثناء كان الباص قد انطلق من جديد، مددت رجليّ مستمتعاً بالمساحة الإضافية التي أصبحت سانحة لي بعد رحيله للطابق السفلي، وضعت سماعاتي واسترخيت. لم يدم ذلك طويلاً، بالكاد انقضت 5 دقائق قبل أن رأيت فروة رأسه تطل من أعلى السلالم.
فور ما جلس بجانبي، أطلقت ريحا وقلت “شمشم يبنلوسخة”.
أعجبني
بين فينة و فينة ازور موقعك علني أجد خربشة جديدة بعدما التهمت كل ما سبق وكتبتَ في الموقع . الى ان توقفت عن التحقق بعد ان طال غيابك. على أي عودا حميدا اخ رضوان ، اشتقنا لقلمك